له وحده يخضع وينقاد لا لغيره ما في السموات جميعا ، وما في الأرض من دابة تدبّ على الأرض ، والمراد به كلّ دابة. قال الأخفش : هو كقولك ما أتاني من رجل مثله ، وما أتاني من الرجال مثله. وقد دخل في عموم ما في السموات وما في الأرض جميع الأشياء الموجودة فيهما ، وإنما خصّ الدابة بالذكر لأنه قد علم من قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) انقياد الجمادات ، وعطف الملائكة على ما قبلهم تشريفا لهم ، وتعظيما لدخولهم في المعطوف عليه (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي : والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم والمراد الملائكة ؛ ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة. وفي هذا ردّ على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله ، ويجوز أن تكون حالا من فاعل يسجد وما عطف عليه ، أي : يسجد لله ما في السموات وما في الأرض والملائكة وهم جميعا لا يستكبرون عن السجود (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : حال كونهم يخافون ربهم من فوقهم ، أو جملة مستأنفة لبيان نفي استكبارهم ، ومن آثار الخوف عدم الاستكبار ، ومن فوقهم متعلق بيخافون على حذف مضاف ، أي : يخافون عذاب ربهم من فوقهم ، أو يكون حالا من الربّ ، أي : يخافون ربهم حال كونه من فوقهم ، وقيل : معنى (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) يخافون الملائكة فيكون على حذف المضاف ، أي : يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم ، وهو تكلّف لا حاجة إليه ، وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان ، وتقرّرت في القلوب ، قيل : وهذه المخافة هي مخافة الإجلال ، واختاره الزجّاج فقال : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) خوف مجلّين ، ويدلّ على صحة هذا المعنى قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (١) ، وقوله إخبارا عن فرعون : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) (٢). (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي : ما يؤمرون به من طاعة الله ، يعني الملائكة ، أو جميع من تقدّم ذكره ، وحمل هذه الجمل على الملائكة أولى ؛ لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عباده ، ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به ، كالكفار والعصاة الذين لا يتّصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) قال : هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد ظلمهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن داود بن أبي هند قال : نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) الآية قال : هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة ، فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) قال : إي والله لما يصيبهم الله من جنته ونعمته أكبر (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). وأخرج ابن جرير المنذر عن الشعبي في قوله : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قال : المدينة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
__________________
(١). الأنعام : ٦١.
(٢). الأعراف : ١٢٧.