يا رجل ، فجاء به على الأصل ، وهو جائز ، إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : أبصرت ، يقال : آنست الصوت سمعته ، وآنست الرجل : أبصرته. وقيل : الإيناس الإبصار البين ، وقيل : الإيناس مختصّ بإبصار ما يؤنس ، والجملة تعليل للأمر بالمكث ، ولما كان الإتيان بالقبس ، ووجود الهدى ، متوقعين ؛ بني الأمر على الرجاء فقال : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي : أجيئكم من النار بقبس ، والقبس : شعلة من النار ، وكذا المقباس ، يقال : قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني ؛ أي : أعطاني ، وكذا اقتبست. قال اليزيدي : أقبست الرجل علما وقبسته نارا ؛ فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي : أقبسته نارا أو علما سواء ، قال : وقبسته أيضا فيهما. (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي : هاديا يهديني إلى الطريق ويدلني عليها. قال الفرّاء : أراد هاديا ، فذكره بلفظ المصدر ، أو عبّر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف ، أي : ذا هدى ، وكلمة «أو» في الموضعين لمنع الخلوّ دون الجمع ، وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ) أي : فلما أتى النار التي آنسها (نُودِيَ) من الشجرة ، كما هو مصرّح بذلك في سورة القصص ، أي : من جهتها ، ومن ناحيتها (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي : نودي ، فقيل : يا موسى. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي أني بفتح الهمزة. وقرأ الباقون بكسرها ، أي : إني (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أمره الله سبحانه بخلع نعليه ؛ لأن ذلك أبلغ في التواضع ، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل : إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ ، وقيل : معنى الخلع للنعلين : تفريغ القلب من الأهل والمال ، وهو من بدع التفاسير. ثم علّل سبحانه الأمر بالخلع فقال : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) المقدّس : المطهر ، والقدس : الطهارة ، والأرض المقدّسة : المطهرة ، سمّيت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين وعمّرها بالمؤمنين ، وطوى : اسم للوادي. قال الجوهري : وطوى اسم موضع بالشام يكسر طاؤه ويضم ، يصرف ولا يصرف ، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة ، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة ، وقرأ عكرمة «طوى» بكسر الطاء ، وقرأ الباقون بضمها. وقيل : إن طوى كثنى من الطي مصدر لنودي ، أو للمقدس ، أي : نودي نداءين ، أو قدّس مرة بعد أخرى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) قرأ أهل المدينة وأهل مكة وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) بالإفراد. وقرأ حمزة وأنّا اخترناك بالجمع. قال النحاس : والقراءة الأولى أولى من جهتين : إحداهما أنها أشبه بالخط ، والثانية أنها أولى بنسق الكلام ؛ لقوله : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ، ومعنى اخترتك : اصطفيتك للنبوّة والرسالة ، والفاء في قوله : (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وما موصولة أو مصدرية ، أي : فاستمع للذي يوحى إليك ، أو للوحي ، وجملة (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) بدل من «ما» في «لما يوحى». ثم أمره سبحانه بالعبادة فقال : (فَاعْبُدْنِي) والفاء هنا كالفاء التي قبلها ؛ لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) خصّ الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة ، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة ، وعلّل الأمر بإقامة الصلاة بقوله لذكري ، أي : لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقّق إلا في ضمن العبادة