بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))
(وَ) اذكر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي) أي : أبصرني ، قرأ ابن كثير والسوسي بسكون الراء من أرني ، وقرأ الدوريّ باختلاس الكسرة ، والباقون بكسرة كاملة (كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) قال الحسن وقتادة والضحاك : كان سبب هذا السؤال من إبراهيم عليهالسلام أنه مرّ على دابة ميتة ، قال ابن جرير : كانت جيفة حمار فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبرّ ، فكانت إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها ، وما وقع منها ، يصير في البحر وإذا انحسر البحر جاءت السباع فأكلت منها وما وقع منها يصير ترابا فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها وما سقط قطعته الريح في الهواء ، فلما رأى ذلك إبراهيم تعجب منها وقال : يا رب قد علمت أنك لتجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وأجواف دواب البحر ، فأرني كيف تحييها فأزداد يقينا فعابه الله بقوله :
(قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بقدرتي على الإحياء سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيب بما أجاب به ، فيعلم السامعون غرضه (قالَ بَلى) يا رب آمنت (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي : ليسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة ، أراد أن يصير له بعد علم اليقين عين اليقين ، فإن العيان يفيد في المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال.
وأمّا قوله صلىاللهعليهوسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي» (١) فقال أبو سليمان الخطابي : ليس فيه اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول : إذا لم أشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، فإبراهيم أولى بأن لا يشك ، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس ، وكذلك قوله : ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف ، وقيل : سبب سؤاله أنه لما قال له نمروذ أنا أحيي وأميت قال له : إن إحياء الله بردّ الروح إلى بدنها ، فقال نمروذ : هل عاينته فلم يقدر أن يقول : نعم ، وانتقل إلى تقرير آخر ثم سأل ربه أن يريه ليطمئن قلبه في الجواب إن سئل عنه مرّة أخرى.
فإن قيل : بم تعلقت اللام في ليطمئن؟ أجيب : بأنها تعلقت بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب.
وقيل : بل كان قصده بالسؤال رؤية المحيى ولكنه طلبها تلويحا ، فأجيب بالمنع منها تلويحا ، وموسى عليه الصلاة والسّلام لما سألها تصريحا أجيب بالمنع تصريحا.
قال تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) قال مجاهد وابن جرير : أخذ طاوسا وديكا وحمامة وغرابا ، وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان شبها ، كتدوير الرأس والمشي على رجلين ، وأجمع لخواص الحيوان لأنّ فيها ما يتكلم ، وما يهتدي للطريق كالقطاة ، وللمياه كالهدهد ، وفي هذا إيماء إلى أنّ إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة حب الشهوات والزخارف ، التي هي صفة الطاووس والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس ، وبعد الأمل المتصف بهما الغراب والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمام ، ومنهم من ذكر النسر بدل الحمامة. وروي بدلها البطة وبدل الغراب الغرنوق.
__________________
(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٣٧٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٥١ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٤٠٢٦.