(فَصُرْهُنَ) أي : فأمسكهن واضممهنّ (إِلَيْكَ) قرأ حمزة بكسر الصاد والباقون بضمها.
فإن قيل : ما معنى أمره بضم الطير إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ أجيب : بأنه ليتأمّلها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها ، لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ، ولذلك قال : (يَأْتِينَكَ سَعْياً.) وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال كما قال تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال ، فقال ابن عباس وقتادة : أمره الله تعالى أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ويجعلها على أربعة أجبل ، على كل جبل جزء من كل طائر ، وقال السديّ وابن جريج : جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبل ، وأمسك رؤوسهنّ ثم دعاهنّ : تعالين بإذن الله ، فجعل كل قطرة من دم طائر تصير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة إلى الريشة الأخرى ، وكل عظم يصير إلى العظم الآخر ، وإبراهيم ينظر حتى صارت جثثا بغير رؤوس ثم أقبلن إلى رؤوسهن سعيا فالتقى كل طائر برأسه فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) أي : سريعا ، وقيل : مشيا لأنها لو طارت لربما توهم متوهم أنها غير تلك الطير ، وإنّ أرجلها غير سليمة قال البيضاويّ : وفي ذلك إشارة إلى أنّ من أراد إحياء نفسه بالحياة الأبدية فعليه أن يقبل على القوى البدنية كالشهوة والغضب فيقتلها ، ويمزج بعضها ببعض حتى تنكسر سورتها فتطاوعنه مسرعات متى دعاهنّ بداعية العقل أو الشرع ، وكفى لك شاهدا على فضل إبراهيم ويمنه أي : بركته حيث سلك مسلك الضراعة في الدعاء ، وحسن الأدب في السؤال ، أنه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه ، وأراه عزيرا بعد أن أماته مائة عام (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجز عما يريد (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة في كل ما يفعله.
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أي : يبذلون (أَمْوالَهُمْ) بطيب النفس (فِي سَبِيلِ اللهِ) الذي له الكمال كله أي : في طاعته كمثل زراع ومثل ما ينفقون (كَمَثَلِ حَبَّةٍ) مما زرعه فلا بدّ من حذف كما تقرّر أو يقال مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) والمنبت هو الله سبحانه وتعالى ، ولكن الحبة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم بإظهار تاء التأنيث عند السين ، والباقون بالإدغام ، ومعنى إنباتها سبع سنابل أن يخرج منها ساق يتشعب منه سبع شعب لكل واحدة سنبلة ، وهذا التمثيل تصوير الأضعاف كأنها مصوّرة بين عيني الناظر.
فإن قيل : كيف صح هذا التمثيل ولم نر سنبلة فيها مائة حبة؟ أجيب : بأنّ ذلك موجود في الدخن والذرة وغيرهما ، وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فبلغ حبها هذا المبلغ ، وعلى تقدير عدم وجوده هو غير مستحيل وما لا يكون مستحيلا يجوز ضرب المثل به وتأوّل ذلك الضحاك فقال : كل سنبلة أنبتت مائة حبة.
فإن قيل : هلّا قال الله تعالى سبع سنبلات ، لأنه جمع قلة كما قال الله تعالى (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) [يوسف ، الآيات : ٤٣ ـ ٤٦]؟ أجيب : بما تقدّم في قوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة ، ٢٢٨].
(وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) بفضله تلك المضاعفة أو يضاعف على هذا ويزيد لمن شاء ما بين