(لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً) أي : سفرا (فِي الْأَرْضِ) للتجارة والمعاش لشغلهم عنه بالجهاد (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أي : لأجل تعففهم عن السؤال.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين ، والباقون بكسرها (تَعْرِفُهُمْ) أيها المخاطب (بِسِيماهُمْ) أي : بعلامتهم من التخشع والتواضع ، وصفرة الوجوه ، ورثاثة الحالة (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ) شيئا فيلحفون (إِلْحافاً) أي : لا سؤال لهم أصلا فلا يقع منهم إلحاف ومثل ذلك قول الشاعر (١):
لا يفزع الأرنب أهوالها |
|
ولا ترى الضب بها ينجحر |
أي : ليس فيها أرنب فيفزع لهولها ولا ضب فينجحر ، وليس المعنى أنه ينفي الفزع عن الأرنب والانجحار عن الضب والإلحاف الإلحاح ، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه من قولهم : لحفني من فضل لحافه ، أي : أعطاني من فضل ما عنده وقيل : إنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا. قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «إن الله يحب الحييّ الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف» (٢) ، وقال صلىاللهعليهوسلم : «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه» (٣) وقال صلىاللهعليهوسلم : «من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خدوش» قيل : يا رسول الله وما يغنيه؟ قال : «خمسون درهما أو قيمتها» (٤)(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) أي : مال (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم وفي هذا ترغيب في الإنفاق.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي : يعمّون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة بالسر ، وعشرة بالعلانية. وفي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها ، فتصدّق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية. وقال الأوزاعي : نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلا ونهارا سرا وعلانية.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» (٥) وقوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) خبر الذين ينفقون والفاء للسببية.
فإن قيل : أيّ فرق بين قوله هنا (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) [البقرة ، ٢٧٤] وفيما مرّ (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) [البقرة ، ٢٦٢]؟ أجيب : بأنّ الموصول ثم لم يضمن معنى الشرط وضمنه هنا.
__________________
(١) البيت من السريع ، وهو لابن أحمد في ديوانه ص ٦٧ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٢٩ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٩٢ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١١ / ٣١٣ ، والخصائص ٣ / ١٦٥ ، ٣٢١.
(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٣١ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٣٥٩ ، والطبري في تفسيره ٣ / ٦٦.
(٣) أخرجه البخاري في الزكاة حديث ١٤٧١ ، وابن ماجه في الزكاة حديث ١٨٣٦.
(٤) أخرجه أبو داود في الزكاة حديث ١٦٢٦ ، والترمذي في الزكاة حديث ٦٥٠.
(٥) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٥٣ ، والنسائي في الخيل حديث ٣٥٨٢.