التفاسير فتذكر أي : فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر ، وقرأ حمزة وحده أن تضل إحداهما على الشرط فتذكر بالرفع والتشديد كقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] وجملة الإذكار محل العلة أي : لتذكر إن ضلت ودخلت على الضلال ؛ لأنّ الضلال سبب الإذكار وهم ينزلون كل واحد من السبب والسبب منزلة الآخر (وَلا يَأْبَ) أي : لا يمتنع (الشُّهَداءُ إِذا ما) أي : إذا (دُعُوا) لأداء الشهادة والتحمل ، فما مزيدة وسموا شهداء على هذا الثاني تنزيلا لما يشارف منزلة الواقع (وَلا تَسْئَمُوا) أي : تملوا من (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي : ما شهدتم عليه من الحق لكثرة وقوعه أو تكسلوا من أن تكتبوه فكني عن السآمة التي تكون بعد الشروع للكثرة بالكسل الذي يكون ابتداء لكونها من لوازمه ؛ لأنّ الكسل صفة المنافق. قال تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) [النساء ، ١٤٢] وقال صلىاللهعليهوسلم : «لا يقول المؤمن كسلت» (١)(صَغِيراً) كان ذلك الحق (أَوْ كَبِيراً) قليلا أو كثيرا وقوله تعالى : (إِلى أَجَلِهِ) أي : وقت حلوله الذي أقرّ به المديون حال من الهاء في تكتبوه (ذلِكُمْ) أي : الكتب (أَقْسَطُ) أي : أعدل (عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي : أعون على إقامتها لأنه يذكرها.
تنبيه : يجوز على مذهب سيبويه أن يكون أقسط وأقوم مبنيين من أقسط وأقام ، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط وأقوم من قويم أو هما مبنيان من أقسط وأقام لا من قسط وقام ؛ لأنّ قسط بمعنى جار ، والمعنى هنا على العدل والفعل منه أقسط فلزم أن يكون أقسط في الآية من المزيد لقصد الزيادة في المقسط قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة ، ٤٢] لا من المجرّد ؛ لأنّ معناه الزيادة في القاسط وهو الجائز قال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن ، ١٥] وكذا أقوم معناه أشدّ إقامة لا قياما وبناؤهما من ذلك على غير قياس ، والقياس أن يكون البناء من المجرّد لا من المزيد ويجوز أن يكون بناؤهما من قاسط بمعنى ذي قسط أي : عدل وبمعنى قويم أي : ذي استقامة على طريقة النسب كالابن وتامر فيكون أفعل لا فعل له ، وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجب لجموده (وَأَدْنى) أي : وأقرب إلى (أَلَّا تَرْتابُوا) أي : تشكوا في قدر الحق وجنسه والشهود والأجل ونحو ذلك (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً) وهي تعم المبايعة بدين أو عين (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) أي : تتعاطونها يدا بيد (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي : لا بأس إذا تبايعتم يدا بيد (أَلَّا تَكْتُبُوها) فهو استثناء من الأمر بالكتابة لبعده حينئذ عن التنازع والنسيان ، وقرأ عاصم بنصب التاء فيهما على أنّ تجارة هي الخبر والاسم مضمر تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة ، والباقون بالرفع فيهما على أنّ تجارة هي الاسم والخبر تديرونها أو على كان التامّة (وَأَشْهِدُوا) أي : ندبا (إِذا تَبايَعْتُمْ) عليه سواء كان ناجزا أو كالئا فإنه أدفع للاختلاف فهو تعميم بعد تخصيص احتياطا في جميع المبتاعات ، ويجوز أن يراد هذا التبايع الذي هو التجارة الحاضرة على أنّ الإشهاد كاف فيه دون الكتابة وقوله تعالى : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أصله يضارر أدغمت إحدى الراءين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين ، واختلفوا فمنهم من قال أصله يضارر بكسر الراء الأولى وجعل الفعل للكاتب والشهيد ومعناه نهيهما عن ترك الإجابة وعن التحريف والتغيير في الكتابة والشهادة ، ومنهم من قال : أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشاهد
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.