مفعولين ومعناه النهي عن الضرار بهما مثل أن يعجلا عن مهمّ ويكلفا الخروج عما حد لهما ولا يعطى الكاتب جعله ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كان ، والمنهي حينئذ المتبايعان ، فالآية محتملة للبناء للفاعل وللبناء للمفعول فتحمل عليهما معا أو على كل منهما والأولى أولى.
(وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه من الضرار (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي : معصية وخروج عن الأمر (وَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفة أمره ونهيه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه المتضمنة لمصالحكم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كرّر لفظ الله في الجمل الثلاث لاستقلالها ، فإنّ الأولى حث على التقوى ، والثانية وعد بإنعامه ، والثالثة تعظيم الله لشأنه عزوجل ، ولأنه أدخل في التعظيم من الضمير وهذا آخر آية الدين ، وقد حث سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سببا لمصالح المعاش والمعاد قال تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [النساء ، ٥] الآية.
قال القفال رحمهالله تعالى : ويدلّ على ذلك أنّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار. وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ!) ثم قال ثانيا : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ،) ثم قال ثالثا : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) فكان هذا كالتكرار لقوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) لأنّ العدل هو ما علمه الله ، ثم قال رابعا : (فَلْيَكْتُبْ) وهذا إعادة للأمر الأوّل ثم قال خامسا : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) وفي قوله تعالى : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) كناية عن قوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) لأنّ الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ، ثم قال سادسا : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) وهذا تأكيد ثم قال سابعا : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) وهذا كالمستفاد من قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ثم قال ثامنا : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) وهو أيضا تأكيد لما مضى ثم قال تاسعا : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا!) فذكر هذه الفوائد التالية لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على المبالغة ، في التوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله تعالى من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله.
(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أي : مسافرين وتداينتم ، فعلى بمعنى في لئلا يتوهم أن المعنى على نية سفر (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ) أي : فعليكم رهن (مَقْبُوضَةٌ) تستوثقون بها وبينت السنة جواز الرهن في الحضر ومع وجود الكاتب ، فقد «رهن رسول الله صلىاللهعليهوسلم درعه في المدينة من يهوديّ بعشرين صاعا من شعير أخذه لأهله» (١) فالتقييد بما ذكر ؛ لأنّ التوثق به أشدّ ، وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوزاه إلا في السفر أخذا بظاهر الآية.
وأفاد قوله تعالى : (مَقْبُوضَةٌ) اشتراط القبض أي : في لزوم الرهن لا في صحته والاكتفاء به من المرتهن ووكيله ولا يشترط القبض عند مالك ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ الراء والهاء ولا ألف بعدها والباقون بكسر الراء وفتح الهاء وألف بعدها وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ) أي : الدائن (بَعْضاً) أي : المديون واستغنى بأمانته عن الارتهان (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) أي : المدين (أَمانَتَهُ) أي : دينه سماه أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به ، وقرأ ورش
__________________
(١) أخرجه البخاري في البيوع حديث ٢٠٦٨ ، ومسلم في المساقاة حديث ١٦٠٣ ، والترمذي في البيوع حديث ١٢١٥ ، والنسائي في البيوع حديث ٤٦١٠.