بالحجج المحققة أنه من عند الله وهو في موضع الحال أي : محقا (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : قبله من الكتب.
فإن قيل : كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه؟ أجيب : بأن تلك الأخبار لغاية ظهورها وكونها موجودة سماها بهذا الاسم (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) جملة على موسى عليه الصلاة والسّلام (وَالْإِنْجِيلَ) جملة على عيسى عليه الصلاة والسّلام.
(مِنْ قَبْلُ) أي : قبل تنزيل القرآن ، واختلف الناس في هذين اللفظين هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف أو لا يدخلانهما لكونهما أعجميين فلا يناسب كونهما مشتقين ، ورجح هذا الزمخشري وقال : قالوا لأنّ هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين وقوله تعالى : (هُدىً) حال بمعنى هاديين من الضلالة ولم يثنه ؛ لأنه مصدر (لِلنَّاسِ) أي : على العموم إن قلنا : متعبدون بشرع من قبلنا وهو رأي وإلا فالمراد بالناس قومهما وإنما عبر في التوراة والإنجيل بأنزل وفي القرآن بنزل المقتضى للتكرير ؛ لأنهما أنزلا دفعة واحدة بخلافه. وقيل : إن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا جملة واحدة ومن سماء الدنيا منجما في ثلاث وعشرين سنة فحيث عبر فيه بأنزل أريد الأول أو ينزل أريد الثاني.
فإن قيل : يردّ الأوّل بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) وبقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [البقرة ، ٤] وبقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف ، ١] وبقوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) [الإسراء ، ١٠٥] ويرد الثاني بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان ، ٣٢] أجيب : بأن القول بذلك جرى على الغالب (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي : الكتب الفارقة بين الحق والباطل وذكره بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها ، فكأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ولم يجمع ؛ لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران وقيل : القرآن وكرّر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيما وإظهارا لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه وحيا منزلا وتمييز بأنه معجز يفرق به بين المحق والمبطل.
وقيل : أراد الكتاب الرابع وهو الزبور كما قال تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [النساء ، ١٦٣] قال الزمخشريّ : وهو ظاهر ولما قرّر سبحانه جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد زجرا للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) من القرآن وغيره (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بسبب كفرهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي : غالب على أمره فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده (ذُو انْتِقامٍ) ممن عصاه والنقمة عقوبة المجرم أي : يعاقبه عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها أحد.
(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) كائن (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لعلمه بما يقع في العالم من كليّ وجزئيّ.
فإن قيل : لم خصهما بالذكر مع أنه عالم بجميع الأشياء أجيب : بأنه تعالى إنما خصهما به ؛ لأنّ البصر لا يتجاوزهما.
فإن قيل : لم قدّم الأرض على السماء؟ أجيب : بأنها إنما قدمت ترقيا من الأدنى إلى الأعلى وهذه الآية كالدليل على كونه حيا.
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) أي : من ذكورة وأنوثة ، وبياض