تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) فإن المرء عند الشدّة يفزع إلى المال والولد ؛ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها في دفع النوائب ، فبين تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا وإذا تعذر عليه الانتفاع بالمال والولد وهما أقرب الطرق فما عداه بالتعذر أولى ونظيره (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء ، ٨٨ ، ٨٩] ، وأمّا الثاني من أسباب كمال العذاب وهو اجتماع الأسباب المؤلمة فهو المراد بقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) وهذا هو النهاية في العذاب ، فإنه لا عذاب أعظم من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس.
وقوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) إمّا استئناف مرفوع المحلّ خبر لمبتدأ مضمر تقديره دأبهم في ذلك كدأب آل فرعون ، وإمّا متصل بما قبله أي : لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد النار بهم كما توقد النار بآل فرعون وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على آل فرعون فيكون في محل جر وقيل : استئناف فيكون في محل رفع على الابتداء والخبر ، وقوله تعالى : (كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) وعلى الأوّل تكون هذه الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى : (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة.
«ولما أصاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع وقال : يا معشر اليهود احذروا من الله تعالى أن ينزل بكم مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا : يا محمد لا يغرّنك أنك لقيت أقواما أغمارا أي : جهالا جمع غمر لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة وإنا والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس» (١) نزل.
(قُلْ) يا محمد (لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية ، وقد وقع ذلك بقتل قريظة وإجلاء النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم (وَتُحْشَرُونَ) في الآخرة (إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي : الفراش والمخصوص بالذم محذوف أي : بئس المهاد جهنم. وفي هذه الآية إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع خبره على موافقته فكان هذا إخبارا بالغيب فكان معجزة ولهذا لما نزلت هذه الآية قال لهم صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم» (٢) وقرأ حمزة والكسائي بالياء فيهما على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب.
فإن قيل : أي فرق بين القراءتين من جهة المعنى؟ أجيب : بأنّ معنى قراءة التاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم فهو إخبار بما سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكى لهم ما أخبره به من وعيد بلفظه كأنه قال : أد إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون.
(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) أي : عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون.
فإن قيل : لم لم يقل قد كانت ؛ لأنّ الآية مؤنثة؟ أجيب : بأنه إنما ذكر الفعل للفصل بينه وبين الاسم المؤنث بلكم فإن الفصل مسوغ لذلك مع المؤنث الحقيقي كقوله (٣) :
إنّ امرأ غره منكنّ واحدة |
|
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور |
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الخراج حديث ٣٠٠١.
(٢) أخرجه البغوي في تفسيره ١ / ٤١٥.
(٣) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٧٤ ، والخصائص ٢ / ٤١٤ ، والدرر ٦ / ٢٧١ ، وشرح شذور الذهب ص ٢٢٤ ، ولسان العرب (غرر) ، واللمع ص ١١٦.