ونزل في اليهود : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعيسى والإنجيل (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) بموسى والتوراة (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن وقيل : كفروا بمحمد بعدما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه والصدّ عن الإيمان ونقض الميثاق (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي : الثابتون على الضلال.
فإن قيل : قد وعد الله تعالى قبول توبة من تاب فما معنى قوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ؟) أجيب : بأنّ محل القبول إذا كان قبل الغرغرة وهؤلاء توبتهم كانت بعدها وإنهم لم يتوبوا أصلا فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها أو أنّ توبتهم لا تكون إلا نفاقا.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ) أي : مقدار ما يملؤها من (الْأَرْضِ) شرقها إلى غربها (ذَهَباً) تغليظا في شأنهم وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة.
فإن قيل : لم قال في الآية الأولى لن تقبل بغير فاء وفي هذه بقوله : فلن يقبل بالفاء أجيب : بأن الفاء إنما دخلت في خبر إن لشبه الذين بالشرط وإيذانا بتسبب امتناع الفدية على الموت على الكفر بخلافه في الآية الأولى لا دليل فيه على السبب كما تقول : الذي جاءني له درهم لم تجعل المجيء سببا لاستحقاق الدرهم بخلاف قولك : فله درهم ونصب ذهبا على التمييز كقولهم : عشرون درهما وقوله تعالى : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تقرّب به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة ، ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) [الزمر : ٤٧] والمثل يحذف كثيرا في كلامهم كقوله : ضربته ضرب زيد وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي : مانعين عنهم العذاب ومن مزيدة للاستغراق.
روى أنس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة : لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به فيقول : نعم فيقول : أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي» (١).
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ
__________________
(١) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٥٧ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٨٠٥.