للنبيّ وكان واصلا إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية فناسب الإتيان بعلى المختصة بالعلوّ ، وما هناك خطاب للأمّة وقد وصل إليهم بواسطة النبيّ الذي هو من البشر فناسب الإتيان بإلى المختصة بالاتصال. قال الزمخشري : فيه تعسف ألا ترى إلى قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) و (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [النساء ، ١٠٥] وإلى قوله تعالى : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران ، ٧٢].
فإن قيل : لم قدم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل؟ أجيب : بأنه إنما قدم ؛ لأن المنزل عليه هو المعرّف للمنزل على سائر الرسل ، ولأنه أفضل الكتب المنزلة (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي : موحدون مخلصون له في العبادة لا نجعل له شريكا فيها. ونزل فيمن ارتدّ ولحق بالكفار وهم اثنا عشر رجلا ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري.
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) أي : غير التوحيد والانقياد لحكم الله فهو مشتمل على الإيمان بهذا التقدير ودينا تمييز مبين للإسلام والدين يشتمل على التصديق والأعمال الصالحة فالإسلام كذلك ؛ لأنّ المبين لا يخالف المبين وعلى هذا حمل الإسلام على الدين في قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران ، ١٩] والدين هو الوضع الإلهي السائق لكل خير (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لمصيره إلى النار المؤبدة عليه وقوله تعالى :
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) لفظه استفهام ومعناه جحد أي : لا يهديهم الله لما علم من تصميمهم على كفرهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم (وَ) بعدما (شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ) قد (جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي : الحجج الظاهرة على صدق النبيّ صلىاللهعليهوسلم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الكافرين.
(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) والمراد بالناس المؤمنون أو العموم ، فإن الكافر يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه.
تنبيه : دلت هذه الآية بمنطوقها على جواز لعن القوم المذكورين وبمفهومها على نفي جواز لعن غيرهم من الكفار الذين لم يكفروا بعد إيمانهم. قال البيضاوي : ولعلّ الفرق أنهم أي : هؤلاء مطبوعون على الكفر ممنوعون عن الهدي مأيوسون عن الرحمة بخلاف غيرهم أي : فلا يلعن الكافر الأصلي المعين حيا ولا ميتا ما لا يعلم موته على الكفر ، وكالأصلي المرتدّ وأمّا لعن الكافر على العموم فيجوز.
(خالِدِينَ فِيها) أي : اللعنة أو النار أو العقوبة المدلول باللعنة عليها (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي : يمهلون.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) عملهم تصديقا لتوبتهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لهم يقبل توبتهم (رَحِيمٌ) بهم يتفضل عليهم وذلك «أنّ الحارث بن سويد لما ارتدّ ولحق بالكفار ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم هل لي من توبة ، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم توبته» (١).
__________________
(١) أخرجه بنحوه النسائي في تحريم الدم حديث ٤٠٦٨.