لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))
ثم ذكر سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : طبع واستوثق فلا يدخلها إيمان ولا خير ، والختم : الكتم ، سمي به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له (وَعَلى سَمْعِهِمْ) أي : مواضعه فلا ينتفعون بما يسمعونه من الحق ، وقوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) أي : أعينهم (غِشاوَةٌ) مبتدأ وخبر أي : على أعينهم غطاء من عند الله تعالى فلا يبصرون الحق وعبر الله تعالى عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) [النحل ، ١٠٨] وبالإغفال في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) [الكهف ، ٢٨] وبالإقساء في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) [المائدة ، ١٣] وهذه الهيئة من حيث إنّ الممكنات بأسرها مستندة إلى الله تعالى واقعة بقدرته أسندت إليه تعالى ومن حيث إنها مسببة عما اقترفوه بدليل قوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء ، ١٥٥] وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [المنافقون ، ٣] وردت الآية مظهرة عليهم شناعة صفتهم ووخامة عاقبتهم.
فإن قيل : لم وحد السمع دون القلوب والأبصار؟ أجيب : بأنه على حذف مضاف مثل وعلى حواس سمعهم كمواضعه كما مرّ تقديره أو باعتبار الأصل فإنه مصدر في أصله والمصادر لا تثنى ولا تجمع والأبصار جمع بصر وهو إدراك العين وقد يطلق مجازا على القوّة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع ، قال البيضاويّ : ولعل المراد بهما في الآية العضو لأنه أشدّ مناسبة للختم والتغطية وبالقلب ما هو محل العلم وقد يطلق القلب ويراد به العقل والمعرفة ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق ، ٣٧] أي : عقل ، وأمال أبو عمرو ألف أبصارهم وكذا كل ألف بعدها راء مكسورة متطرّفة وإنما جاز إمالتها مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية لما فيها من التكرير (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي : قوي دائم في الآخرة وهذا وعيد وبيان لما يستحقونه ، والعذاب كلّ ما يعيي الإنسان ويشق عليه ، وقال الخليل : العذاب ما يمنع الإنسان عن مراده ومنه الماء العذب لأنه يمنع العطش وإنما وصف العذاب بالعظيم دون الكبير لأن العظيم فوقه ، لأنّ العظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير ، وإذا كان الحقير مقابلا للعظيم والصغير ، للكبير كان العظيم فوق الكبير لأنّ العظيم لا يكون حقيرا والكبير قد يكون حقيرا كما أنّ الصغير قد يكون عظيما ، وتنكير الغشاوة والعذاب للتنويع لأنهما لما قرنا بالختم على القلوب كان المعنى نوعا عظيما منه أي : على أبصارهم غشاوة ليس وما يتعارفه الناس وهو التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلا الله.
ونزل في المنافقين حكاية لحالهم قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) أمال أبو عمرو الألف قبل السين المكسورة إمالة محضة ، وهكذا كل ألف مثلها والباقون بالفتح (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) أجمع المفسرون على أنّ ذلك وصف المنافقين ، قالوا : صنف الله الأصناف الثلاثة من المؤمنين والكافرين والمنافقين فبدأ بذكر المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى بأضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا وثلث بالصنف الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم ، وهذا الصنف أخبث الكفرة