الذين قالوا : (سَنَكْتُبُ) أي نأمر بكتب (ما قالُوا) من الإفك والفرية في صحائف أعمالهم ليجازوا عليه ونحوه وإنا له كاتبون أو سنحفظه في علمنا لا نهمله ؛ لأنه كلمة عظيمة إذ هو كفر بالله واستهزاء بالله والرسول ولذلك نظمه مع قتل الأنبياء كما قال تعالى : (وَقَتْلَهُمُ) أي : وسنكتب قتلهم (الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) وفي نظمه به تنبيه على أنه ليس أوّل جريمة ارتكبوها وأنّ من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذا القول (وَنَقُولُ) أي : الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : النار وهي بمعنى المحرق كما يقال عذاب أليم أي : مؤلم وقرأ حمزة : سيكتب بالياء المثناة تحت بعد السين مضمومة وفتح التاء بعد الكاف وضمّ اللام من قتلهم وبالياء في ويقول والباقون بالنون بعد السين مفتوحة وضمّ التاء بعد الكاف ونصب اللام من قتلهم وبالنون في ونقول ويقال لهم : إذا ألقوا في النار.
(ذلِكَ) أي : العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من الافتراء وقتل الأنبياء وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس ؛ لأنّ أكثر أعمالها بهنّ (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ) أي : بذي ظلم (لِلْعَبِيدِ) فيعذبهم بغير ذنب.
فإن قيل : ظلام للمبالغة المقتضية للتكثير فهو أخص من ظالم ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعمّ أجيب : بأنه لما قوبل بالعبيد وهم كثيرون ناسب أن يقابل الكثير بالكثير وبأنه إذا نفى الظلم الكثير ينفى القليل ؛ لأنّ الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه فيمن يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أترك وبأن ظلام للنسب كما قدّرته في الآية الكريمة ، كما في بزاز وعطار أي : لا ينسب إليه ظلم البتة وقوله تعالى : (الَّذِينَ) نعت للذين قبله (قالُوا) لمحمد صلىاللهعليهوسلم : تزعم أنّ الله بعثك بالحق رسولا وأنزل عليك كتابا وأن نؤمن بك أي : وقالوا (إِنَّ اللهَ) قد (عَهِدَ إِلَيْنا) أي : أمرنا وأوصانا في كتبه (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) أي : لا نصدّق رسولا أنه قد جاء من عند الله (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) أي : حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصة التي كانت لأنبياء بني إسرائيل ، فيكون دليلا على صدقه والقربان كل ما يتقرّب به العبد إلى الله من نسيكة وعمل صالح وكانوا إذا قرّبوا قربانا أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وهفيف فتأكل ذلك القربان وتأكل الغنيمة. ومعنى أكلها أن تحيل ذلك إلى طبعها بالإحراق فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم يتقبل بقي على حاله وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم ؛ لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات في ذلك سواء ، وقال السديّ : هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط آخر وهو أنّ الله تعالى أمر بني إسرائيل من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدّقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم (قُلْ) لهم يا محمد (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) أي : بالمعجزات (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان كزكريا ويحيى فقتلتموهم (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) والخطاب لمن في زمن نبينا وإن كان الفعل لأجدادهم لرضاهم به (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنكم تؤمنون بالرسل عند الإتيان بذلك.
ثم قال الله تعالى تسلية لنبيه صلىاللهعليهوسلم من تكذيب قومه واليهود : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ) أي : المعجزات (وَالزُّبُرِ) أي : الصحف كصحف إبراهيم (وَالْكِتابِ) أي : التوراة والإنجيل (الْمُنِيرِ) أي : الواضح فاصبر كما صبروا ، وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام ، وقرأ ابن عامر وبالزبر بالباء الموحدة والباقون بغير باء بعد