لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب وقيل : هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم رأوا المصلحة في التخلف واستحمدوا به ، وقيل : هم المنافقون فإنهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد بما ليس فيه وقوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد (بِمَفازَةٍ) أي : مكان ينجون فيه (مِنَ الْعَذابِ) في الآخرة بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : مؤلم فيها وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بالكسر ، ومفعولا تحسب الأولى دل عليهما مفعولا الثانية على قراءة التحتانية وعلى الفوقانية حذف الثاني فقط ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : فلا يحسبنهم بالياء على الغيبة وضم الباء الموحدة والباقون بالتاء على الخطاب وفتح الباء الموحدة وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة كما تقدّم.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغير ذلك (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما فيهما من العجائب (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالمجيء والذهاب والزيادة والنقصان (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحة على قدرته تعالى : وباهر حكمته (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لذوي العقول الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر ، وفي النصائح الصغار : املأ عينيك من زينة هذه الكواكب ، وأجلها في جملة هذه العجائب متفكرا في قدرة مقدرها متدبرا حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر ويحال بينك وبين النظر. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها : أخبريني بأعجب ما رأيت من أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب أتاني ليلة فدخل في لحافي حتى التصق جلده بجلدي ثم قال : «يا عائشة هل لك أن تأذني الليلة في عبادة ربي؟» فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه ، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فقال : «يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟» ثم قال : «وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ ثم قال : ـ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» (١).
وروي : «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها» (٢) ، وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : إنّ في خلق السموات والأرض ، وحكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبدها فتى من فتيانهم
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ٤٧ ، ١١٩ ، ١٠ / ٦٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ١١١.
(٢) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ٦٤.