تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) إذ المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون : أنشدك بالله وبالرحم ، وأجيب بأنّ خصوص آخر الآية لا يمنع عموم أوّلها (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) أي : عذابه بأن تطيعوه (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي : فرّعكم من أصل واحد ، وهو نفس آدم أبيكم.
وقوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) معطوف على «خلقكم» أي : خلقكم من شخص واحد هو آدم ، وخلق منها أمكم حوّاء بالمدّ من ضلع من أضلاعه اليسرى ، أو معطوف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها وابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء ، وهو تقرير لخلقكم من نفس واحدة ، وقوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما) أي : من آدم وحوّاء (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) أي : كثيرا بيان لكيفية تولدهم منهما.
والمعنى : وبث أي : نشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة ، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة ، وذكر كثيرا حملا على الجمع ولا تكرار في الآية ؛ لأن خلقكم من نفس واحدة مغاير لخلق حوّاء منها ؛ لأنها خلقت من ضلعه وهم من مائهما ولبث الرجال والنساء ؛ لأنه بين به أن خلقهم من نفس واحدة معناه من نفس آدم وحوّاء مع زيادة التصريح بالرجال والنساء (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ) فيه إدغام التاء في الأصل في السين أي : تتساءلون (بِهِ) فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض : أسألك بالله ، وأنشدك بالله.
فإن قيل : الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويبعث عليها ، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجبا للتقوى وداعيا إليها؟ أجيب : بأنّ ذلك مما يدل على القدرة العظيمة ، ومن قدر على ذلك كان قادرا على كل شيء ، ومن المقدورات عقاب العصاة ، فالنظر فيه يؤدّي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه ؛ ولأنه يدل على النعمة السابقة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها ، والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف السين والباقون بتشديدها (وَ) اتقوا (الْأَرْحامَ) أي : بأن تصلوها ولا تقطعوها ، وكانوا يتناشدون بالرحم ، وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه على أن صلتها بمكان منه تعالى.
روى الشيخان أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «الرحم معلقة بالعرش تقول : ألا من وصلني وصله الله تعالى ومن قطعني قطعه الله تعالى» (١) ، وقرأ غير حمزة بالنصب عطفا على الله تعالى فالعامل فيه اتقوا كما قدرته أو معطوف على محل الجار والمجرور كقولك : مررت بزيد وعمرا ، وأما حمزة فقرأه بالجر عطفا على الضمير المجرور ، وقول البيضاوي : وهو ضعيف أي : كما هو مذهب البصريين ممنوع ، والحق أنه ليس بضعيف فقد جوّزه الكوفيون ، وكيف يكون ضعيفا والقراءة به متواترة؟ فيجب أن يضعف كلام البصريين ويرجع إلى كلام رب العالمين ، وتعليلهم عدم الجواز بكونه كبعض كلمة لا يقتضي إلحاقه به في عدم جواز العطف إذ حذف الشيء مع القرينة جائز ومنه (٢) :
__________________
(١) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٥٩٨٩ ، ومسلم في البر حديث ٢٥٥٥.
(٢) عجزه :
كدت أقضي الحياة من جلله
والبيت من الخفيف ، وهو لجميل بثينة في ديوانه ص ١٨٩ ، والأغاني ٨ / ٩٤ ، وأمالي القالي ١ / ٢٤٦ ، ـ