قوله في الكوكب : هذا ربي ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله : إني سقيم ، فالمراد التعريض أي : وهو اللفظ المشار به إلى جانب والغرض جانب آخر ، وقيل : هو خلاف التصريح وهو تضمين الكلام دلالة ليس لها ذكر وسمي تعريضا لما فيه من التعريض عن المطلوب ، ولكن لما شابه الكذب في صورته سمي به ، انتهى. وهذا ليس على إطلاقه فإن من الكذب ما هو مباح وما هو مندوب وما هو واجب وما هو حرام لأن الكلام وسيلة إلى المقصود فكل مقصود محمود إن أمكن التوصل إليه بالصدق ، فالكذب فيه حرام ، وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا ، ومندوب إن كان المقصود مندوبا ، وواجب إن كان المقصود واجبا ، وفي حديث الطبرانيّ في «الكبير» «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا ، الرجل يكذب في الحرب فإن الحرب خدعة ، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها ، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما» (١) ، وفي حديث في «الأوسط» «الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دينه» (٢).
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي : لهؤلاء فهو عطف تفسير على يكذبون فمحله نصب لكونه معطوفا على خبر كان ، فيكون جزءا من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم ، أو على يقول ، فلا محلّ له من الإعراب لكونه معطوفا على صلة من فلا يكون جزءا من السبب ، والقائل هو الله تعالى أو رسوله صلىاللهعليهوسلم أو بعض المؤمنين ، (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بالكفر والتعويق عن الإيمان ، والفساد خروج الشيء عن الاعتدال ، والصلاح ضدّه ، والفساد يعمّ كل ضارّ ، والصلاح يعمّ كل نافع ، وكان من إفسادهم في الأرض إثارة الحروب والفتن بمخادعة المسلمين ، ومعاونة الكفار المتمحض كفرهم على المسلمين فإن ما ذكر يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس والدواب والحرث ، ومنه إظهار المعاصي والإهانة بالدين فإنّ الإخلال بالشرائع والإعراض عنها وما يوجب القتل والاختلاط ويخل بنظام العالم لا أن ذلك إفساد لأن الإفساد جعل الشيء فاسدا وصنيعهم لم يكن كذلك ، فقوله تعالى : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) مجاز باعتبار المآل أي : لا تفعلوا ما يؤدّي إلى الفساد وليس معنى الإفساد هنا الإتيان بالفساد ليصح حمل الكلام على الحقيقة ، نبه على ذلك السعد التفتازاني (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) جواب لإذا ورد للناصح على سبيل المبالغة والمعنى أنه لا يصح مخاطبتنا بذلك فإن شأننا ليس إلا الإصلاح وإن حالتنا متمحضة عن شوائب الفساد لأن (إِنَّما) تفيد قصر ما دخله على ما بعده مثل إنما زيد منطلق وإنما ينطلق زيد ، وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض كما قال تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر ، ٨].
قال الله تعالى يردّ عليهم أبلغ ردّ : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) أي : بما ذكر (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) أي : لا يفطنون بمعنى لا يعلمون أنهم هم المفسدون بذلك أي : لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاح ، وقيل : لا يعلمون ما أعدّ الله لهم من العذاب ووجه الأبلغية في ذلك تصديره بألا المنبهة على تحقيق ما بعدها فإن همزة الاستفهام التي للإنكار إذا دخلت على
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤٥٤ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٨١ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٥٢٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٢٩٠.
(٢) أخرجه الهيثمي في الزوائد ٥ / ١٢٥ ، ٨ / ١٤٩ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٧٣ ، والطبراني في الأوسط ٦ / ٦٨.