إلى مكة ندم هو وأصحابه وكتبوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنا قد ندمنا على ما صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول وأنت بمكة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الفرقان ، ٦٨] الآيات وقد دعونا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرّم الله قتلها وزنينا فلو لا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [مريم ، ٦٠] الآيتين فبعث بهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليهم فلما قرؤوهما كتبوا إليه : إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فبعث بها إليهم فبعثوا إليه إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر ، ٥٣] الآية فبعث بها إليهم ، فدخلوا في الإسلام ورجعوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقبل منهم ثم قال لوحشيّ «أخبرني كيف قتلت حمزة؟» فلما أخبره قال : «ويحك غيب وجهك عني» (١) فلحق وحشيّ بالشام فكان بها إلى أن مات (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى) أي : ارتكب (إِثْماً عَظِيماً) أي : كبيرا فالافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل وكذا الاختلاق.
روي أن رجلا قال : يا رسول الله ما الموجبات؟ قال : «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار» (٢).
وروى أبو ذر أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من عبد قال : لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» قلت : وإن زنا وإن سرق؟ قال : «وإن زنا وإن سرق» قلت : وإن زنا وإن سرق! قال : «وإن زنا وإن سرق» قلت : «وإن زنا وإن سرق؟ قال : «وإن زنا وإن سرق على رغم أنف أبي ذر» (٣) وكان أبو ذر إذا حدّث بهذا قال : وإن رغم أنف أبي ذر (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) قال الحسن وقتادة : نزلت في اليهود والنصارى قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة ، ١١١] ، وقال الكلبيّ : نزلت في رجال من اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب؟ قال : «لا» قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار.
ويدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله إلا إذا كان لغرض صحيح وطابق الواقع كقول سيدنا يوسف صلىاللهعليهوسلم : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف ، ٥٥] ، وقوله صلىاللهعليهوسلم : «إني أمين في السماء أمين في الأرض» (٤) حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه ، ولكن شتان بين من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم (بَلِ اللهُ) الذي له صفات الكمال (يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي : بماله من العلم التامّ والقدرة الشاملة والحكمة البالغة ، وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا أو قولا (وَلا يُظْلَمُونَ) أي : ينقصون من أعمالهم (فَتِيلاً) أي : قدر ما يكون في شق النواة قاله عكرمة عن ابن عباس ، فهو اسم لما في شق النواة ، والقطمير اسم للقشرة التي على النواة ، والنقير اسم للنقطة التي تكون على ظهر النواة ، وقيل : الفتيل من الفتل وهو ما
__________________
(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٩ / ٩٨ ، وابن حجر في فتح الباري ٧ / ٢٧٠.
(٢) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٨٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٩٣.
(٣) أخرجه البخاري في اللباس حديث ٥٨٢٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٩٤.
(٤) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١٥٧٥٥.