العمه بالبصيرة والعمى بالبصر وهو ما ذكره ابن عطية فبينهما تباين ، وقال الإمام وغيره : العمه في البصيرة والعمى عام فيها وفي البصر ، فبينهما عموم مطلق وأمال الدوري عن الكسائي ألف طغيانهم إمالة محضة وفتحها الباقون.
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي : اختاروها عليه واستبدلوها به. وأصل الشراء بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان فإن كان أحد العوضين ناضا تعين من حيث إنه لا يطلب لعينه أن يكون ثمنا وبذله اشتراء وإلا فالثمن ما دخلت عليه الباء فباذله مشتر وآخذه بائع ثم اتسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشيء طمعا في غيره ، والمعنى أنهم أخلوا بالهدى الذي جعله الله لهم بالفطرة التي فطر الناس عليها محصلين الضلالة التي ذهبوا إليها واختاروا الضلالة واستحبوها على الهدى ، وأمال ألف الهدى حمزة والكسائي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) أي : ما ربحوا فيها. والتجارة : التصرف بالبيع والشراء ، والربح الفضل على رأس المال ، وإسناده إلى التجارة وهو لأربابها على سبيل الاتساع لتلبسها بالفاعل أو لمشابهتها إياه من حيث إنها سبب للربح والخسران واتفق القرّاء على إدغام التاء في التاء وكذا كل مثلين الأوّل منهما ساكن (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) لطرق التجارة فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة والعقل الصرف فلما اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم واختل عقلهم ولم يبق لهم رأس مال يتوصلون به إلى إدراك الحق ونيل الكمال فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل.
(مَثَلُهُمْ) أي : شبههم وصفتهم في نفاقهم (كَمَثَلِ الَّذِي) بمعنى الذين بدليل سياق الآية ونظيره (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر ، ٣٣] ، وقوله تعالى : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة ، ٦٩] أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج الذي (اسْتَوْقَدَ) أي : أوقد (ناراً) في ظلمة لما جاء بحقيقة حالهم عقبها بضرب المثل وهو بيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في معرض المشاهد المحسوس زيادة في التوضيح والتقرير فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم ، قال البيضاوي : والاستيقاد طلب الوقود والسعي في تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها. اه. والأكثر على أنّ استوقد هنا بمعنى أوقد كما قدرته لا بمعنى طلب الوقود (فَلَمَّا أَضاءَتْ) أي : أنارت النار ، وأضاء لازم ومتعدّ ، يقال : أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره (ما حَوْلَهُ) أي : المستوقد فأبصر واستدفأ وأمن ما يخافه (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) أي : أطفأه وهذا جواب لما وإسناد الإذهاب إلى الله تعالى ، إما لأن الكل بفعله أو لأن الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه وأمسكه وما أخذه الله تعالى وأمسكه فلا مرسل له ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكده بقوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فذكر الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالكلية ، وكيف جمع الظلمة ، وكيف نكرها ، وكيف أتبعها بما يدل على أنها ظلمة خالصة وهو قوله : (لا يُبْصِرُونَ) وظلماتهم : ظلمة الكفر ؛ وظلمة النفاق ؛ وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم ، أو ظلمة الضلال ؛ وظلمة سخط الله ؛ وظلمة