روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» (١)(وَلا تُظْلَمُونَ) أي : تنقصون من أعمالكم (فَتِيلاً) أي : قدر ما يكون في شق النواة كما مرّ عن عكرمة. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ، ونزل في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [آل عمران ، ١٥٦].
(أَيْنَ ما تَكُونُوا) أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) أي : فإنه طالب لا يفوته هارب. واختلف كتاب المصاحف في رسم أينما هنا فمنهم من كتب ما مقطوعة من أين ومنهم من وصلها (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ) أي : حصون برج داخل برج أو كل واحد منكم داخل برج (مُشَيَّدَةٍ) أي : مرتفعة كل واحد منها شاهق في الهواء منيع فلا تخشوا القتال خوف الموت.
ونزل في اليهود لما قالوا حين قدم النبيّ صلىاللهعليهوسلم المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) أي : اليهود (حَسَنَةٌ) أي : خصب ورخص في السعر (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لنا لا مدخل لك فيها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي : جدب وغلاء في الأسعار (يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي : من شؤم محمد وأصحابه وقيل : المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر ، والسيئة القتل والهزيمة يوم أحد ، يقولون : هذه من عندك أي : أنت الذي حملتنا عليه يا محمد فعلى هذا يكون هذا قول المنافقين (قُلْ) لهم يا محمد (كُلٌ) أي : الحسنة والسيئة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) ثم عيرهم بالجهل فقال : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) أي : اليهود أو المنافقين (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) أي : لا يقاربون أن يفهموا (حَدِيثاً) يوعظون به وهو القرآن ؛ لأنهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا أنّ الكل من عند الله ، أو حديثا ما يلقى إليهم كبهائم لا أفهام لهم ، وما استفهام تعجب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه.
(ما أَصابَكَ) أي : أيها الإنسان (مِنْ حَسَنَةٍ) أي : نعمة دنيوية أو أخروية (فَمِنَ اللهِ) أتتك تفضلا منه والإيمان أحسن المحسنات ، قال الإمام : إنهم اتفقوا على أنّ قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت ، ٣٣] المراد به كلمة الشهادة (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي : بلية وأمر تكرهه (فَمِنْ نَفْسِكَ) أتتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذنوب.
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وبين قوله (فَمِنْ نَفْسِكَ؟) أجيب : بأنّ قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : الخصب والجذب والنصر والهزيمة كلها من عند الله وقوله : (فَمِنْ نَفْسِكَ) أي : ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى ، ٣٠] ، وقيل : إنّ هذه الآية متصلة بما قبلها ، والقول فيه مضمر تقديره : فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يقولون : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَأَرْسَلْناكَ) يا محمد (لِلنَّاسِ) أي : كافة وقوله تعالى : (رَسُولاً) حال قصد بها التأكيد (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على إرسالك بنصب المعجزات ، ولما قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحب الله» فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن تتخذوه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم» (٢) نزل.
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٥٨ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٠٨.
(٢) أخرجه بنحوه ابن أبي شيبة في المصنف ١٢ / ٢١٢ ، وابن حجر في فتح الباري ٩ / ٣٤٨ ، ١٣ / ٢٥٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٤٨٠٨ ، ١٤٨٥٤ ، ٣٢٩٧٣.