تعالى إذا أطمع عبده بشيء أوصله إليه ولكن في ذكر الإطماع والعفو إيذان بأن أمر الهجرة مضيق لا توسعة فيه حتى أنّ المضطرّ البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني فكيف بغيره (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) قال ابن عباس : كنت أنا وأمي ممن عذر الله أي : من المستضعفين وكان صلىاللهعليهوسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في كل صلاة ، قال أبو هريرة : كان إذا قال : سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء قنت يقول : «اللهمّ أنج عياش بن ربيعة اللهمّ أنج الوليد بن الوليد اللهمّ أنج سلمة بن هشام اللهمّ أنج المستضعفين من المسلمين ، اللهمّ اشدد وطأتك على مضر ، اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (١).
(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً) أي : متحوّلا يتحوّل إليه ، وقيل : طريقا يراغم بسلوكه قومه أي : يفارقهم على رغم أنوفهم مأخوذ من الرغام ، والرغم الذل والهوان ، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب يقال : راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك (وَ) يجد (سَعَةً) في الرزق كما قال صلىاللهعليهوسلم : «صوموا تصحوا وسافروا تغنموا» (٢) أخرجه الطبرانيّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه «واغزوا تغنموا وهاجروا تفلحوا» ولما سمع هذه الآية رجل من بني قيس يقال له : جندب بن ضمرة قال : ما أنا ممن استثنى الله عزوجل وإني لأجد حيلة ولي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها والله لا أبيت الليلة بمكة اخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال : اللهمّ هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما يبايعك عليه رسولك فمات ، قال التفتازانيّ : الظاهر أنّ هذه إشارة إلى اليمين وهذه إلى الشمال لا قصد إسناد الجارحة إلى الله تعالى بل على سبيل التصوير وتمثيل مبايعة الله تعالى على الإيمان والطاعة بمبايعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم إياه ، وقيل : إشارة إلى البيعة والصفقة ، والمعنى : أن بيعته كبيعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا بيعة كبيعة الناس فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : لو وافى المدينة كان أتمّ وأوفى أجرا وضحك المشركون وقالوا : ما أدرك هذا ما طلب فنزل (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) أي : في الطريق قبل مقصده (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي : ثبت أجره عنده تعالى ثبوت الأجر الواجب تفضلا منه ورحمة (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لتقصيره إن كان (رَحِيماً) يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات.
ولما أوجب الله السفر للجهاد والهجرة وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله تعالى :
(وَإِذا ضَرَبْتُمْ) أي : سافرتم (فِي الْأَرْضِ) سفرا طويلا لغير معصية ، والطويل عند الشافعيّ رحمهالله تعالى أربعة برد وهي مرحلتان كما ثبت ذلك بالنسبة ، وعند أبي حنيفة رحمهالله تعالى ثلاثة أيام ولياليهنّ بسير الإبل ومشي الأقدام على القصد ، وقوله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي : إثم وميل في (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) أي : من أربع إلى ركعتين ، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء يدل على جواز القصر دون وجوبه ، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسّلام أتم في السفر كما رواه الشافعيّ وغيره.
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ١٠٠٦ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٧٥.
(٢) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١ / ١٨٢ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٨٣ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٤٠١ ، وابن كثير في تفسيره ٦ / ٣٠١ ، والطبراني في الأوسط ٨ / ١٧٤.