والاستقامة ، وإنما ذكر في الآية الأولى (فقد افترى) ؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم نوع افتراء ، وهو دعوى التبني على الله.
(إِنْ) أي : ما (يَدْعُونَ) أي : يعبد المشركون (مِنْ دُونِهِ) أي غير الله (إِلَّا إِناثاً) وهي اللات والعزى ومناة ، وعن الحسن لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ، وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله ، وقيل : المراد الملائكة لقولهم : الملائكة بنات الله (وَإِنْ) أي ما (يَدْعُونَ) أي يعبدون بعبادتها (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي : خارجا عن الطاعة وهو إبليس ؛ لأنه الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها ، فكانت طاعته في ذلك عبادة له.
(لَعَنَهُ اللهُ) أي أبعده عن رحمته (وَقالَ) الشيطان المذكور (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً) أي : حظا (مَفْرُوضاً) أي : مقطوعا أدعوهم فيه إلى طاعتي قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) أي عن طريقك السوى بما سلطتني به من الوسواس وتزيين الأباطيل (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) أي بكل ما أقدر عليه من الباطل من عدم البعث والحساب ولا جنة ولا نار وغيره ، وألقي في قلوبهم طول الأعمار وبلوغ الآمال من الدنيا والآخرة بالرحمة والحنو والإحسان ونحوه مما هو سبب للتسويف بالتوبة (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَ) أي : يقطعن (آذانَ الْأَنْعامِ) كما كانت العرب تفعله بالبحائر والسوائب التي حرّموها على أنفسهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، وجاء الخامس ذكرا حرموا على أنفسهم الانتفاع بها (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) أي : فطرة الله التي هي دين الإسلام بالكفر وإحلال ما حرّم الله ، وتحريم ما أحل الله ، ويدخل في ذلك اللواط والسحر والوشم ، وهو أن يغرز الجلد بإبرة ويحشى بنحو نيلة ، والوشر وهو أن تحدّ المرأة أسنانها وترققها ونحو ذلك ، وكالخصاء وهو حرام في بني آدم ، قال الزمخشري : وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم ؛ لأن الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم ، وأمّا في البهائم فيجوز في المأكول الصغير ويحرم في غيره.
وقيل للحسن رحمهالله تعالى : إنّ عكرمة يقول : المراد هنا هو الخصاء فقال : كذب عكرمة هو دين الله وعن ابن مسعود هو الوشم (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) أي : يتولاه ويطيعه (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) بينا لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.
(يَعِدُهُمْ) ما لا ينجزه بأن يخيل إليهم بما يصل إلى قلوبهم بالوسوسة في شيء من الأباطيل ، إنه قريب الحصول فيسعون في تحصيله فيضيع عليهم في ذلك الزمان ويرتكبوا ما لا يحل من الأهوال والهوان (وَيُمَنِّيهِمْ) نيل الآمال في الدنيا ولا بعث ولا جزاء (وَما) أي : والحال إنه ما (يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ) بذلك (إِلَّا غُرُوراً) أي : باطلا ، وهو إظهار النفع فيما فيه الضر وهذا الوعد إمّا بالخواطر أو بلسان أوليائه.
(أُولئِكَ) أي : الشيطان وأولياؤه (مَأْواهُمْ) أي : مقرّهم (جَهَنَّمُ) يحترقون فيها (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي : معدلا ومهربا.
ولما ذكر ما للكافر ترهيبا اتبعه ما لغيرهم ترغيبا فقال :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : الطاعات تصديقا لإقرارهم (سَنُدْخِلُهُمْ) بوعد لا خلف فيه (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي : لريّ أرضها فحيثما أجرى منها نهر جرى (خالِدِينَ فِيها) ولما كان الخلود يطلق على المكث الطويل دفع ذلك بقوله تعالى :