(ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) نعماءه (وَآمَنْتُمْ) أي : لينفي به غيظا أو يدفع ضرا أو يستجلب به نفعا ، وهو الغنيّ المطلق المتعالي عن النفع والضرّ ، والاستفهام بمعنى النفي أي : لا يعذبكم.
فإن قيل : لم قدم الشكر على الإيمان مع أنه لا ينفع مع عدم الإيمان؟ أجيب : بأنّ الناظر يدرك النعمة أوّلا فيشكر شكرا مبهما فإذا انتهى إلى معرفة المنعم آمن به ، ثم شكر شكرا مفصلا ، فكان الشكر متقدّما على الإيمان ، وكأنه أصل التكليف ومداره فيؤمن به ، والشكر ضدّ الكفر ، فالكفر ستر النعمة ، والشكر إظهارها (وَكانَ اللهُ شاكِراً) لأعمال المؤمنين بالإثابة يقبل اليسير ويعطي الجزيل (عَلِيماً) بخلقه.
(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) أي : القبيح (مِنَ الْقَوْلِ) من أحد أي : يعاقب عليه (إِلَّا مَنْ) أي : جهر من (ظُلِمَ) وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما هو فيه من السوء فلا يؤاخذ به قال الله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى ، ٤١] قال الحسن البصري : دعاؤه عليه أن يقول : اللهمّ أعني عليه اللهمّ استخرج حقي منه ، وقيل : إن شئتم أجاز له أن يشتم بمثله لا يزيد عليه ، وقال مجاهد : هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صنع به.
روي أنّ رجلا أضاف قوما أي : نزل بهم ضيفا فلم يطعموه فأصبح شاكيا فعوتب على الشكاية فنزلت ، وعن عقبة بن عامر قال : قلنا يا رسول الله ، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم» (١)(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لكل ما يقال ومنه دعاء المظلوم (عَلِيماً) بكل ما يفعل ومنه فعل الظالم.
(إِنْ تُبْدُوا) أي : تظهروا (خَيْراً) من أعمال البرّ (أَوْ تُخْفُوهُ) أي : تعملوه سرا (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) أي : عن مظلمة (فَإِنَّ اللهَ كانَ) أي : دائما أزلا وأبدا (عَفُوًّا قَدِيراً) أي : يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك وهو حث للمظلوم على تمهيد العفو بعد ما رخص له في الانتصار حملا على مكارم الأخلاق.
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) نزل في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى والتوراة وعزير وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) أي : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي : طريقا وسطا بين اليهودية والإسلام ، ولا واسطة إذ الحق لا يختلف ، فإنّ الإيمان بالله إنما يتم بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلا وإجمالا ، والكفر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس ، ٣٢].
(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) أي : الكاملون في الكفر وقوله تعالى : (حَقًّا) مصدر مؤكدا لمضمون الجملة قبله (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي : ذا إهانة وهو عذاب النار.
__________________
(١) أخرجه البخاري في المظالم حديث ٢٤٦١ ، ومسلم في اللقطة حديث ١٧٢٧ ، وأبو داود في الأطعمة حديث ٣٧٥٢ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٦٧٦.