وقوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) معطوف على الطيبات أي : أحلّ لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف للعلم به والجوارح جمع جارحة من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والباز والشاهين ، والهاء للمبالغة سميت بذلك لأنّ الجرح الكسب لأنها تكسب الصيد ، ومنه قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام ، ٦٠] أي : كسبتم أو لأنها تجرح الصيد غالبا ، وقوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) حال من ضمير علمتم أي : حال كونكم معلّمين هذه الكواسب الصيد والمكلب المؤدّب الجوارح ومغريها مأخوذ من الكلب بسكون اللام وهو الحيوان النابح ؛ لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فأخذ من لفظه لكثرته في جنسه أو لأنّ السبع يسمى كلبا ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم في عتبة بن أبي لهب حين أراد سفر الشام فغاظ النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال النبيّ : «اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» (١) فأكله الأسد ، وقوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَ) حال ثانية من ضمير علمتم أو استئناف.
فإن قيل : ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم؟ أجيب : بأنّ فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح فقيها عالما بالشرائط المعتبرة في الشرع لحل الصيد ، وفي هذا فائدة جليلة وهي أنّ على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدّهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه ، وإن احتاج في ذلك إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل فكم من أخذ من غير متقن قد ضيّع أيامه وعض عند لقاء التحارير أنامله (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) أي : من علم التكليب لأنه إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) أي : الجوارح مستقرّا إمساكها (عَلَيْكُمْ) أي : على تعليمكم وإن قتلته بأن لم تأكل منه بخلاف غير المعلّمة فلا يحل صيدها وشروط التعليم فيها ثلاثة أشياء : إذا أرسلت استرسلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكته ولم تأكل منه ، وأقل ما يعرف به ذلك ثلاث مرات فإن أكلت منه فليس مما أمسكن على صاحبها فلا يحل أكله كما في حديث الصحيحين ، وإن أكل منه فلا تأكل منه ، إنما أمسك على نفسه. وعن علي رضي الله تعالى عنه : إذا أكل البازي فلا تأكل وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء وبعضهم لا يشترط ذلك في سباع الطير ؛ لأن تأدبها إلى هذا الحدّ متعذر وقال آخرون : لا يشترط مطلقا وفي هذا الحديث إنّ صيد السهم إذا أرسل وذكر اسم الله عليه كصيد المعلم من الجوارح.
(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) في هذه الكناية ثلاثة أوجه أحدها : أنها تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل كأنه قيل : واذكروا اسم الله عليه على الأكل ويؤيده قوله صلىاللهعليهوسلم : «سمّ الله وكل مما يليك» (٢) الثاني : أنها تعود إلى ما علمتم أي : اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد ويؤيده قوله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه» (٣) الثالث : أنها تعود إلى ما
__________________
(١) أخرجه القاضي عياض في الشفاء ١ / ٦٣٢ ، وابن حجر في فتح الباري ٤ / ٣٩ ، والقرطبي في تفسيره ١٧ / ٨٢ ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١٦٣.
(٢) أخرجه البخاري في الأطعمة حديث ٥٣٧٦ ، ومسلم في الأشربة حديث ٢٠٢٢ ، والترمذي في الأطعمة حديث ١٨٥٧ ، ابن ماجه في الأطعمة حديث ٣٢٦٧ ، والدارمي في الأطعمة حديث ٢٠١٩.
(٣) أخرجه الزيلعي في نصب الراية ٤ / ٣١٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٩ / ٢٣٧.