أمسكن أي : اذكروا اسم الله تعالى على ما أدركتم ذكاته مما أمسكت عليكم الجوارح (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : في محرماته (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فيؤاخذكم بما جل ودق.
وقوله تعالى : (الْيَوْمَ) الكلام فيه كالكلام فيما قبله (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي : المستلذات (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي : ذبائح اليهود والنصارى ، ومن دخل في دينهم قبل مبعث محمد صلىاللهعليهوسلم (حِلٌ) أي : حلال (لَكُمُ) فأمّا من دخل في دينهم بعد المبعث فلا تحل ذبيحتهم ، ولو ذبح يهوديّ أو نصرانيّ على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته ، وأما المجوس فقد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في تقريرهم بالجزية دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ، قال صلىاللهعليهوسلم : «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» (١) رواه الإمام مالك (وَطَعامُكُمْ) إياهم (حِلٌّ لَهُمْ) فلا عليكم أن تطعموهم ولا تبيعوه منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك.
(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) أي : الحرائر (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم اليهود والنصارى أي : حل لكم أن تنكحوهنّ وإن كنّ حربيات. وقال ابن عباس : لا تحل الحربيات وأما الإماء المسلمات فيحل نكاحهنّ في الجملة بخلاف الإماء الكتابيات فلا يحل نكاحهنّ عندنا ويحل عند أبي حنيفة رحمهالله تعالى.
(إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : مهورهنّ فتقييد الحلّ بإتيانها لتأكيد وجوبها والحث على الأولى وإنّ من تزوّج امرأة وعزم أن لا يعطي صداقها كان في صورة الزاني ، وورد فيه حديث وتسميته بالأجر يدل على أنه لا حدّ لأقلّه كما أن أقل الأجر في الإجارة لا يتقدّر (مُحْصِنِينَ) أي : قاصدين الإعفاف والعفاف. وقيل : متزوّجين (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : معلنين بالزنا بهنّ (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي : مسرّين بالزنا منهنّ ، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى قال الشعبي : الزنا ضربان : السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا سرا والله تعالى حرمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الإحصان وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة ، ٢٢١] فبقي على التحريم ما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهنّ من جميع المشركات ، حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام ، وقرأ الكسائي بكسر صاد المحصنات والباقون بنصبها.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) اختلف المفسرون في معناه فقال ابن عباس ومجاهد : ومن يكفر بالإيمان أي : بالله الذي يجب الإيمان به وإنما حسن هذا المجاز ؛ لأنه يقال : رب الإيمان ورب الشيء على سبيل المجاز ، وقال الكلبي : ومن يكفر بالإيمان أي : بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله لأنّ الإيمان من لوازمها وإطلاق الشيء على لازمه مجاز مشهور ، وقال قتادة : إنّ ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوّج نساءهم مع كونهم على غير ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية : (وَمَنْ يَكْفُرْ) بما أنزل الله في القرآن فهو كذا وكذا فسمي القرآن إيمانا ؛ لأنه مشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان ، والمراد من ذلك أن يأتي بشيء يصير به مرتدا (فَقَدْ حَبِطَ) أي : فسد (عَمَلُهُ) الصالح قبل ذلك إن اتصل ذلك بالموت بدليل قوله تعالى : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ
__________________
(١) أخرجه مالك في الزكاة حديث ٤٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٩ / ١٨٩ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٣ / ٢٢٤ ، ١٢ / ٢٤٣ ، وعبد الرزاق في المصنف ١٠٠٢٥ ، ١٩٢٥٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٢٢٩.