أي : من الأشياء التي يتوهم أنها قد تمنعه مما يريد (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي : لا أحد يملك ذلك ولو كان المسيح إلها لقدر عليه فدل ذلك على أنه بمعزل من الألوهية وأنه مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات ، وأراد بعطف (من في الأرض) على المسيح وأمّه أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهم وبينهما في البشرية (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي : بين النوعين وبين أفرادهما مما به تمام أمرهما (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : على أيّ كيف أراد (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : قادر على الإطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات والأرض ومن أصل كما خلق ما بينهما وينشىء من أصل ليس من جنسه كآدم وكثير من الحيوانات ومن أصل يجانسه أمّا من ذكر وحده كما خلق حوّاء من آدم أو من أنثى وحدها كعيسى ابن مريم أو منهما كسائر الناس. وقوله تعالى :
(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى) أي : كل طائفة قالت على حدتها (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) اختلف المفسرون في معنى ذلك على أربعة أوجه ، أحدها : أنّ هذا من باب حذف المضاف أي : نحن أبناء رسل الله كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح ، ١٠] الثاني : إن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب قد يطلق أيضا على من اتخذ ابنا بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة ، فالقوم لما ادعوا عناية الله بهم ادعوا أنهم أبناء الله. الثالث : إنّ اليهود زعموا أنّ العزير ابن الله ، والنصارى زعموا أنّ المسيح ابن الله ثم زعموا أنّ العزير والمسيح كانا منهم فصار كأنهم قالوا : نحن أبناء الله ألا ترى أنّ أقارب الملك إذا فاخروا أحدا يقولون : نحن ملوك الدنيا والمراد كونهم مختصين بالشخص الذي هو الملك فكذا هنا ، الرابع : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوّفهم من عقاب الله فقالوا : كيف تخوّفنا بعذاب الله ونحن أبناء الله تعالى وأحباؤه فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة ، وأمّا النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل أنّ المسيح قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، وقيل : أرادوا أنّ الله كالأب لنا في الحنو والعطف ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة ، وقال إبراهيم النخعي : إنّ اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري فبدلوه بيا أبناء أبكاري فمن ذلك قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه.
وجملة الكلام : أنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلا على سائر الخلق بسبب أسلافهم من الأنبياء إلى أن ادعوا ذلك.
(قُلْ) لهم يا محمد (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) أي : فإن صحّ ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم ولا يعذب الأب ولده ولا الحبيب حبيبه وقد عذّبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودة ، وقرأ البزّي في الوقف فلمه بخلاف عنه (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ) جملة (من خلق) ه الله تعالى من البشر لكم ما لهم وعليكم ما عليهم (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) أي : ممن خلقه منكم ومن غيركم تفضلا منه تعالى (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) كذلك كما تشاهدونه يكرم ناسا منكم في هذه الدار ويهين آخرين لا اعتراض عليه ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام من يغفر والياء في الميم من يعذب بخلاف عنه ورقق ورش الراء على أصله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي : وأنتم مما بينهما فمن كان هكذا وقدرته هكذا كيف يستحق عليه البشر الضعيف حقا واجبا وكيف يملك عليه الجاهل بعبادته الناقصة دينا لازما (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف ، ٥] ثم قال : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي : المرجع فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.