محذوف والنية به التأخير عما في خبر إنّ مع اسمها وخبرها كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك وأنشد سيبويه شاهدا له (١) :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم |
|
بغاة ما بقينا في شقاق |
والشاهد في أنتم فإنه مبتدأ حذف خبره والتقدير وإلا فإنا بغاة وأنتم كذلك.
فإن قيل : ما فائدة هذا التقديم والتأخير؟ أجيب : بأنّ الصابئين أشدّ العرب المذكورين في هذه الآية ضلالا وما سموا صابئين إلا لأنهم صبؤوا عن الأديان كلها أي : خرجوا فكأنه قال : هؤلاء الفرق الذين آمنوا وأتوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم حتى الصابئون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضا كذلك ، وقيل : منصوب بالفتحة فكما جوّز بالفتحة مع الياء في بنين وسنين جوّز مع الواو كما هنا وقوله تعالى : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) في محل رفع بالابتداء وخبره (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والجملة خبر إن.
فإن قيل : كيف قيل : الذين آمنوا من آمن؟ أجيب : بأنّ المراد بالذين آمنوا الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون أو أنّ المراد بمن آمن من ثبت على الإيمان واستقام ولم تخالجه ريبة فيه.
(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : على الإيمان بالله ورسوله (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً) أي : ولم نكتف بهذا العهد بل أرسلنا رسلا ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) أي : بما يخالف هواهم من الشرائع ومشاقّ التكاليف (فَرِيقاً) أي : من الرسل (كَذَّبُوا) أي : كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل كعيسى (وَفَرِيقاً) منهم (يَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى وإنما جيء بيقتلون موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الحالة الشنيعة للتعجب منها وتنبيها على أنّ ذلك دينهم ماضيا ومستقبلا ومحافظة على رؤوس الآي.
(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو لبشر بن أبي خازم في ديوانه ص ١٦٥ ، والإنصاف ١ / ١٩٠ ، وتخليص الشواهد ص ٣٧٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٩٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٤ ، والكتاب ٢ / ١٥٦.