سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢))
(وَحَسِبُوا) أي : ظنّ بنو إسرائيل (أَلَّا تَكُونَ) أي : توجد (فِتْنَةٌ) أي : لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا في الآخرة بل استخفوا بأمرها فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي برفع النون تنزيلا للحساب منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة وأصله أنه لا تكون فتنة والباقون بالنصب على أنّ الحساب على بابه (فَعَمُوا) أي : عن الحق فلم يبصروه وهذا العمى هو الذي لا عمى في الحقيقة سواه وهو انطماس البصائر (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج ، ٤٦] (وَصَمُّوا) عنه فلم يسمعوه أي : عموا وصموا بعد موسى ويوشع عليهماالسلام ، والصمم أضر من العمى فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل أصلا ؛ لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ببعث عيسى ابن مريم فرفعوه إلى الحق (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرّة أخرى بالكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم وقوله تعالى : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي : وإن دقّ فيجازيهم به وفق أعمالهم.
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهم اليعقوبية منهم القائلون بالاتحاد (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أي : إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أي : يشرك في العبادة غيره (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) أي : منعه من دخولها منعا متحتما فإنها دار الموحدين (وَمَأْواهُ النَّارُ) أي : محل سكناه فإنها المعدة للمشركين (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) أي : وما لهم أحد ينصرهم من النار لا بفداء ولا بشفاعة ولا بغيرهما فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا على أنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق وهو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ، نبه على أنهم عدلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا على عيسى عليهالسلام فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ، ورده وأنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره ، وأن يكون من كلام عيسى عليهالسلام على معنى ولا ينصركم أحد مني فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن العقول أو لا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله.
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي : أحد ثلاثة وهو حكاية عما قاله النسطورية والملكانية وفيه إضمار : معناه ثالث ثلاثة الآلهة لأنهم يقولون : الإلهية مشتركة بين الله ومريم وعيسى وكل واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة ، بين هذا قوله تعالى للمسيح : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة ، ١١٦] ومن قال إنّ الله تعالى ثالث ثلاثة بالعلم ولم يرد به الآلهة لم يكفر فإنّ الله يقول : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) وقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (١) ثم قال الله تعالى ردا عليهم : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ)
__________________
(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٦٥٣ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٣٨١ ، والترمذي في التفسير حديث ٣٠٩٦.