الْأَلْبابِ) أي : أصحاب العقول السليمة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب.
ونزل لما أكثروا سؤاله صلىاللهعليهوسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ) أي : تظهر (لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي : لما فيها من المشقة فقيل : سبب نزولها ما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه أنهم لما سألوا النبيّ صلىاللهعليهوسلم حتى أحفوه المسألة أي : بالغوا في السؤال فغضب وصعد المنبر وقال : «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم» وشرع يكرّر ذلك وإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي؟ فقال : «حذافة» فقال عمر رضي الله تعالى عنه : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلىاللهعليهوسلم رسولا نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه قد صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط في آخره» فنزلت هذه الآية (١).
وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله إنا حديث عهد بجاهلية اعف عني يعف الله عنك فسكن غضبه ، وللبخاريّ في التفسير عن أنس أيضا قال : خطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطبة ما سمعت مثلها قط قال : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» فغطى أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وجوههم لهم خنين فقال رجل : من أبي؟ قال : فلان فنزلت هذه الآية. وللبخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان قوم يسألون رسول الله صلىاللهعليهوسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي؟ يقول الرجل تضلّ ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية (٢).
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلىاللهعليهوسلم كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال صلىاللهعليهوسلم : «لا أسأل عن شيء إلا وأجيب» فقال رجل : أين أنا؟ قال : «في النار» وقال آخر : من أبي؟ قال : «حذافة» وكان يدعى لغيره فنزلت هذه الآية (٣). وقيل غير ذلك ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردّها إلى شيء واحد لما مرّ عند قوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) [المائدة ، ٨٧] من أنّ الأمر الواحد قد تتعدّد أسبابه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية مع تحقيق الأولى والباقون بتحقيقهما. ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أنّ هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفا من عواقبه قال تعالى : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) أي : تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) المعنى : إذا سألتم عن أشياء في زمنه صلىاللهعليهوسلم ينزل القرآن بإبدائها ومتى أبداها ساءتكم فلا تسألوا.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها ثم عفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (٤) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي وقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْها) استئناف أي : عفا الله عما
__________________
(١) أخرجه البخاري في الدعوات حديث ٦٣٦٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٥٩.
(٢) أخرجه البخاري في التفسير ، حديث ٢٦٢١.
(٣) انظر الحاشية ما قبل السابقة.
(٤) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠ / ١٣ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ١٢٢ ، وابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٢٦٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٩٨٠ ، ٩٨١.