تسأله الأمم من قبلكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بكمال قدرته تعالى وصحة نبوّتي أو صدقتكم في ادعائكم الإيمان فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.
(قالُوا نُرِيدُ) أي : بسؤالنا من أجل (أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) تبرّكا لا أكل حاجة وقولهم : (وَتَطْمَئِنَ) أي : تسكن (قُلُوبُنا) بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته بيان لما دعاهم إلى السؤال وتمهيد عذرهم وقولهم : (وَنَعْلَمَ) أي : نزداد علما (أَنْ) مخففة أي : إنك (قَدْ صَدَقْتَنا) في ادعاء النبوّة وإنّ الله يجيب دعوتنا ، وقيل : إنّ عيسى عليهالسلام أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئا إلا أعطاهم ففعلوا وسألوا المائدة وقالوا : (ونعلم أن قد صدقتنا) في قولك إنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى شيئا إلا أعطانا (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لمّا رأى أنّ لهم غرضا صحيحا في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) وحقّق موضع الإنزال بقوله : (مِنَ السَّماءِ تَكُونُ) هي أو يوم نزولها (لَنا عِيداً) نعظمه ونشرفه وقال سفيان : نصلي فيه.
وروي أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا ، وقيل : إنّ عيسى عليهالسلام اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى ثم قال : اللهمّ ربنا إلخ .. وقيل : العيد السرور العائد ولذلك سمي يوم العيد عيدا وقوله : (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل من (لنا) بإعادة العامل أي : عيدا لأهل زماننا ولمن جاء بعدنا وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم وقوله : (وَآيَةً) عطف على عيدا وقوله : (مِنْكَ) صفة لها أي آية كائنة منك دالّة على كمال قدرتك وصحة نبوّتي (وَارْزُقْنا) المائدة والشكر عليها (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : من يرزق ؛ لأنه تعالى خالق الرزق ومعطيه بلا غرض.
(قالَ اللهُ) تبارك وتعالى مجيبا لعيسى عليهالسلام (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي : المائدة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ) أي : بعد نزولها (مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) أي : تعذيبا أو مفعولا به على السعة والضمير في (لا أُعَذِّبُهُ) للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء (أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي : عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا فإنهم مسخوا قردة وخنازير ولم يعذّب بمثل ذلك غيرهم ، قال عبد الله بن عمران : أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وقوم فرعون.
واختلف العلماء هل نزلت المائدة أو لا؟ فقال مجاهد والحسن : لم تنزل فإنّ الله تعالى لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستغفروا وقالوا : لا نريدها فلم تنزل ، وقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) أي : إن سألتم والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها نزلت لقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ولتواتر الأخبار في ذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، واختلفوا في صفتها فقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسيّ : لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليهالسلام مسحا وبكى وقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي منقضة حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليهالسلام وقال : اللهمّ اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة ، فقام