فقالوا : إنما هو بشر مثلكم ولو رأوا الملك رجلا للحقهم من اللبس مثل ما لحق الضعفاء منهم فيكون اللبس نقمة من الله وعقوبة لهم على ما كان منهم من التخليط في السؤال واللبس على الضعفاء.
وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) فيه تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم على ما يرى من قومه (فَحاقَ) قال الربيع بن أنس : فنزل ، وقال عطاء : فحل ، وقال الضحاك : فأحاط (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي : من أولئك الرسل (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب فكذا يحيق بمن استهزأ بك.
(قُلْ) لهم (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : أوقعوا السير للاعتبار فيها ولا تغتروا بإمهالكم وتمكينكم (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) أي : آخر أمر (الْمُكَذِّبِينَ) الرسل من هلاكهم بالعذاب فإنكم إذا شاهدتم تلك الآثار كمل لكم الاعتبار بهم.
(قُلْ) لهم (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا وهو سؤال تبكيت (قُلْ لِلَّهِ) إن لم يقولوه لا جواب غيره لأنه المتعين للجواب بالاتفاق إذ لا يمكنهم أن يذكروا غيره (كَتَبَ) أي : قضى (عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) تفضلا منه وإحسانا ، فالرحمة تعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته والعلم بتوحيده بنصب الأدلة وإنزال الكتب والإمهال على الكفرة والعصاة والمذنبين ولو شاء لسلط عليهم المضار وجعل عيشهم من غير اللذيذ كالتراب وبعض القاذورات التي تعيش فيها الحيوانات.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «لما قضى الله الخلق كتب كتابا عنده فوق عرشه : إنّ رحمتي غلبت غضبي» وفي رواية «سبقت غضبي» (١) وفي رواية «إنّ لله تعالى مئة رحمة واحدة بين الجنّ والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة» (٢).
وروي أنه صلىاللهعليهوسلم قدم عليه سبي فإذا امرأة من السبي قد غلب ثديها إذ وجدت صبيا في السبي أخذته وألصقته ببطنها وأرضعته فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه»؟ فقلنا : لا والله يا رسول الله فقال : «الله أرحم بعباده من هذه بولدها» (٣) وقوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) استئناف واللام لام القسم أي : والله ليجمعنكم (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : في يوم القيامة وإلى بمعنى في أو ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم ، وقيل : بدل من الرحمة بدل البعض فإن من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم (لا رَيْبَ) أي : لا شك (فِيهِ) أي : اليوم أو الجمع ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في موضع نصب على الذم أو رفع على الخبر أي : وأنتم الذين خسروا أنفسهم بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية أو مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.)
فإن قيل : الفاء تدل على أنّ عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم مع أنّ الأمر على العكس؟ أجيب : بأنّ إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان.
وقوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ) أي : حل (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) عطف على (لله) أي : له كل
__________________
(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٢٢ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٨٩.
(٢) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٢٧٥٢ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٩٣.
(٣) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٥٩٩٩ ، ومسلم في التوبة حديث ٢٧٥٤.