(فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) أي : عواقب (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) بنزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره.
(أَلَمْ يَرَوْا) أي : في أسفارهم إلى الشام وغيرها (كَمْ) خبرية بمعنى كثيرا (أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : أمّة من الأمم الماضية ، وعلى هذا القرن : الجماعة من الناس وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدّة من الزمان قيل : إنها عشرة أعوام ، وقيل : عشرون ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : أربعون ، وقيل : خمسون ، وقيل : ستون ، وقيل : سبعون ، وقيل : ثمانون ، وقيل : تسعون ، وقيل : مائة.
لما روي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال لعبد الله بن بشر المازني : «تعيش قرنا» (١) فعاش مائة سنة وقيل : مائة وعشرون فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : جعلنا لهم فيها مكانا بالقوّة والسعة وقررناهم فيها (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي : ما لم نجعل لكم من السعة والقوّة فيه التفات عن الغيبة ، والمعنى : لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمودا وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) هي المطر (عَلَيْهِمْ مِدْراراً) أي : متتابعا (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي : تحت مساكنهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي : بسبب ذنوبهم بتكذيبهم الأنبياء فلم يغن ذلك عنهم شيئا (وَأَنْشَأْنا) أي : أحدثنا (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) بدلا منهم.
فإن قيل : ما فائدة ذكر أنشأنا قرنا آخرين بعدهم؟ أجيب : بأنه ذكر للدلالة على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده فهو قادر على أن يفعل ذلك بكم.
ونزل لما قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد : يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً) أي : مكتوبا (فِي قِرْطاسٍ) أي : رق كما اقترحوه (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ) أي : ما (هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : تعنتا وعنادا كما قالوا في انشقاق القمر.
(وَقالُوا لَوْ لا) أي : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي : محمد صلىاللهعليهوسلم (مَلَكٌ) يكلمنا أنه نبي كقوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان ، ٧] (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) بحيث عاينوه كما اقترحوا فلم يؤمنوا (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي : لحق إهلاكهم فإنّ سنة الله تعالى جرت فيمن قبلهم أنهم إذا جاءهم مقترحهم فلم يؤمنوا به يهلكهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي : لا يمهلون لتوبة أو معذرة.
(وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي : المنزل إليهم (مَلَكاً لَجَعَلْناهُ) أي : الملك (رَجُلاً) أي : على صورته ليتمكنوا من رؤيته إذ لا قوّة للبشر على رؤية الملك في صورته وإنما رآه كذلك الأفراد من الأنبياء لقوّتهم القدسية وقوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) جواب محذوف أي : ولو أنزلناه وجعلناه رجلا للبسنا أي : لخلطنا عليهم بجعلنا إياه رجلا ما يخلطون على أنفسهم وعلى غيرهم فيقولون : ما هذا إلا بشر مثلكم وإنما كان تلبيسا لأنهم لبسوا على ضعفتهم في أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ٦ / ٣٩١.