بالرجال إلى العسكر ونحاهم عن النساء خوفا من ذلك ثم بدت له حاجة إلى المدينة ولم يأمن عليها أحدا من قومه إلا آزر فبعث إليه وأقسم عليه أن لا يدنو من أهله فقال آزر : أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى واقعها فحملت بإبراهيم ، قال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم به قال الكهان لنمروذ : إن الغلام الذي أخبرناك عنه قد حملته أمّه الليلة فأمر نمروذ بذبح الغلمان.
قال محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة وكانت قريبة منها فولدت فيها إبراهيم عليه الصلاة والسّلام وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها وكانت تختلف إليه فتنظر ما فعل فتجده يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبنا ومن إصبع عسلا ومن إصبع تمرا ومن إصبع سمنا ، وقال محمد بن إسحاق : كان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت : ولدت غلاما فمات فصدقها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال لأمّه : أخرجيني ، فأخرجته عشاء فنظر وتفكر في خلق السموات والأرض وقال : إنّ الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربي ما لي إله غيره ، ثم نظر في السماء فرأى كوكبا فقال : هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال : لا أحب الآفلين.
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي : مبتدئا في الطلوع (قالَ هذا رَبِّي) فأتبعه بصره (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) وقيل : إنه كان في السرب سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة سنة ، قال بعض أهل التفسير : فلما شبّ إبراهيم وهو في السرب قال لأمّه : من ربي؟ قالت : أنا ، قال : فمن ربك؟ قالت : أبوك قال : فمن رب أبي؟ قالت : اسكت ، فسكت ثم رجعت إلى زوجها فقالت : الغلام الذي كنا نحدّث أنه يغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ، ثم أخبرته بما قال فأتاه أبوه فقال له إبراهيم : يا أبتاه من ربي؟ قال : أمّك ، قال : فمن رب أمّي؟ قال : أنا ، قال : فمن ربك؟ قال : نمروذ قال : فمن رب نمروذ؟ فلطمه وقال : اسكت ، فلما أخرج من السرب وجنّ عليه الليل رأى المشتري قد طلع ـ وقيل : الزهرة ـ وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فتأخر القمر فيها فرأى الكوكب فقال ذلك.
وهل ذلك جار على ظاهره أو مؤوّل جرى بعضهم على الأوّل ، وقال : كان إبراهيم مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى فلم يضره ذلك وأيضا كان ذلك في طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفرا والأصح الثاني إذ لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء ، ثم قال : في تأويله أوجه : أحدها ـ وهو الأصح : أن إبراهيم ذكر ذلك على وجه الاحتجاج عليهم بقوله : هذا ربي أي : في زعمكم فلما غاب قال : لو كان إلها لما غاب كما قال تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ، ٤٩] أي : عند نفسك وبزعمك وكما أخبر عن موسى أنه قال : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) [طه ، ٩٧] أي : في زعمك فلما أفل قال : لا أحبّ الآفلين فضلا عن عبادتهم فإنّ الانتقال والاحتجاج يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية فلم ينجح فيهم ذلك (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) قال لهم : هذا ربي فلما أفل أي : غاب قال : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) أي : يثبتني على الهدى لا أنه لم يكن مهتديا والأنبياء لم يزالوا يسألون الله تعالى الثبات على الإيمان وكان إبراهيم عليهالسلام يقول : واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام.