بالعذاب أو الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم يقولون لهم تعنيفا : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) إلينا لنقبضها.
فإن قيل : إنه لا قدرة لأحد على إخراج روحه من بدنه فما فائدة هذا؟ أجيب : بأنهم يقولون لهم : أخرجوها كرها لأن المؤمن يحب لقاء الله بخلاف الكافر ، وقيل : يقولون لهم : خلصوا أنفسكم من هذا العذاب إن قدرتم على ذلك فيكون هذا القول توبيخا لهم لأنهم لا يقدرون على خلاص أنفسهم من العذاب في ذلك الوقت (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي : الهوان (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) أي : كادعاء الولد والشريك له تعالى ودعوى النبوّة والإيحاء كذبا (وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي : تتكبرون عن الإيمان بها وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا.
(وَ) يقال لهم إذا بعثوا للحساب والجزاء (لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) أي : منفردين عن الأهل والمال والولد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم لأنهم صرفوا هممهم في الدنيا إلى تحصيل المال والولد والجاه وأفنوا أعمارهم في عبادة الأصنام فلم يغن عنهم ذلك شيئا يوم القيامة فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : حفاة عراة ، غرلا ، روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت يا رسول الله وا سوأتاه إنّ الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لكلّ امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال» (١) وروي عنها أنها سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يحشر الناس حفاة عراة غرلا» أي : غير مختونين ، وفي رواية زيادة على ذلك بهما ، قال الجوهري وغيره : أي : ليس معهم شيء ، قالت عائشة رضي الله عنها : فقلت : الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الأمر أشدّ أن يهمهم ذلك» (٢)(وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) أي : ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أي : في الدنيا فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكثرون (وَ) يقال لهم توبيخا (ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أي : الأصنام (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ) أي : في استحقاق عبادتكم (شُرَكاءُ) أي : لله وقوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قرأه نافع وحفص والكسائيّ بنصب النون أي : لقد تقطع ما بينكم من الوصل ، والباقون بالرفع أي : لقد تقطع وصلكم والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل (وَضَلَ) أي : ذهب (عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي : من أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء.
(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ
__________________
(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣٣٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٨٩٥١ ، ٣٨٩٥٢ ، والطبري في تفسيره ٧ / ١٨٤.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٢٧ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٥٩.