أمره بالتخصيص بعد التعميم فقال : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) عليكم قتلها (إِلَّا بِالْحَقِ) وهي التي أبيح قتلها بردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان وهو الذي يوجب الرجم أو نحو ذلك قال صلىاللهعليهوسلم : «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» (١) وقوله تعالى : (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما ذكر مفصلا (وَصَّاكُمْ بِهِ) أي : أمركم به وأوجبه عليكم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : تتدبرون ما في هذه التكاليف من الفوائد والمنافع فإنّ كمال العقل هو التدبر.
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي : بنوع من أنواع عمل فيه أو غيره (إِلَّا بِالَّتِي) أي : بالخصلة التي (هِيَ أَحْسَنُ) بماله كحفظه وتنميته وتثميره ويستمرّ ذلك (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) وهو سن يبلغ به أوان حصول عقله عادة وهو البلوغ بالسن أو الاحتلام أو عقل يحصل به رشده.
وقيل : الأشدّ من الثماني عشر إلى ثلاثين سنة ، وقيل : إلى أربعين ، وقيل : إلى ستين (وَأَوْفُوا) أي : أتموا (الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) أي : العدل من غير تفريط ولا إفراط (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : طاقتها في إيفاء الكيل والميزان لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه ولا يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه حتى لا تضيق نفسه عليه بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه ، وذكره عقب الأمر معناه : أنّ إيفاء الحق عسر فعليكم بما في وسعكم وما وراء الوسع معفوّ عنه (وَإِذا قُلْتُمْ) أي : في حكم ، أو شهادة ، أو غير ذلك (فَاعْدِلُوا) فيه بالصدق (وَلَوْ كانَ) المقول له أو عليه (ذا قُرْبى) أي : من ذوي قرابتكم (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) أي : ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع (ذلِكُمْ) أي : الذي ذكر في هذه الآيات (وَصَّاكُمْ) بالعمل (بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : تتعظون فتأخذون بما أمرتكم به ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
(وَأَنَّ هذا) الذي وصيتكم به (صِراطِي مُسْتَقِيماً) والإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوّة وبيان الشريعة ، وقرأ ابن عامر بتخفيف النون والباقون بالتشديد ، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف وفتحها الباقون على تقدير اللام ، وفتح الياء من صراطي ابن عامر وسكنها الباقون ، وتقدّم مذهب قنبل في الصراط بالسين ومذهب خلف في إشمام الصاد (فَاتَّبِعُوهُ) أي : بغاية جهدكم لأنه الجامع للعباد على الحق الذي فيه كل خير (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) أي : الطرق المخالفة لدين الإسلام (فَتَفَرَّقَ) فيه حذف إحدى التاءين أي : فتميل (بِكُمْ) أي : هذه الطرق المضلة (عَنْ سَبِيلِهِ) أي : طريقه التي ارتضاها لعباده وبها أوصى (ذلِكُمْ) أي : الأمر العظيم من اتباعه (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الضلال والتفرق عن الحق.
روي «أنه صلىاللهعليهوسلم خط خطا» ثم قال : «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال : «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، وقرأ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ»)(٢).
__________________
(١) أخرجه البخاري في الديات حديث ٦٨٧٨ ، ومسلم في القسامة حديث ١٦٧٦ ، والترمذي في الديات حديث ١٤٠٢ ، والنسائي في التحريم حديث ٤٠١٦.
(٢) أخرجه الدارمي في المقدمة حديث ٢٠٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٣٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٢٧٣.