وقطعا للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم ويؤيده ما روي أنّ رجلا يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مدّ البصر فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة والبطاقة : رقعة صغيرة تجعل في طيّ الثوب يكتب فيها ثمنه ، وقيل : توزن الأعمال.
روي عن ابن عباس : يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان ، وقيل : توزن الأشخاص لما روي عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» (١) وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم السؤال المذكور وهو يوم القيامة خبر المبتدأ الذي هو الوزن ، وقوله تعالى : (الْحَقُ) أي : العدل السوي صفته (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي : رجحت على ما يعهد في الدنيا بصحائف الأعمال أو حسناته أو به على الأقوال الماضية ، وعن الحسن : وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يرجح ويثقل وحق لميزان توضع فيه السيآت أن يخف.
فإن قيل : الميزان واحد فما وجه الجمع؟ أجيب : بأنّ العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقيل : إنه ينصب لكل عبد ميزان ، وقيل : إنما جمعه لأنّ الميزان يشتمل على الكفتين واللسان والساهون ولا يتم الوزن إلا بذلك كله ، وقيل : جمع لاختلاف الموزونات وتعدد الجمع فهو جمع موزون أو ميزان (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة والثواب.
(وَمَنْ خَفَّتْ) أي : طاشت (مَوازِينُهُ) أي : السيئات أي : بسببها (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : بتصييرها إلى النار (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي : يجحدون.
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) يا بني آدم (فِي الْأَرْضِ) أي : في مسكنها وزرعها والتصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة أي : أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم من أنواع التجارات والصنائع والمآكل والمشارب وذلك بفضل الله تعالى وإنعامه على عبيده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بيّن تعالى أنه مع هذا الإفضال على عبيده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكرها كما ينبغي فقال تعالى : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي : على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأنّ الإنسان قد يذكر نعمة الله فيشكره عليها فلا يخلو في بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر تصور النعمة وإظهارها ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.
(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) أي : أباكم آدم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي : أباكم آدم والمراد يعني : خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثم صوّرناه فنزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويرهم ، وقيل : خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صوّرناكم في أرحام النساء (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.)
فإن قيل : (ثم) للترتيب والتراخي وهي ظاهرة على القول الأوّل فما وجهه على الثاني؟ أجيب : بأنها تكون بمعنى الواو أي : وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تحية بالانحناء (فَسَجَدُوا) أي : الملائكة كلهم لآدم (إِلَّا إِبْلِيسَ) أبا الجن كان بين الملائكة (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي : ممن سجد.
(قالَ) الله تعالى لإبليس (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي : أن تسجد (إِذْ أَمَرْتُكَ) فلا زائدة
__________________
(١) أخرجه البخاري في التفسير حديث ٤٧٢٩ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٧٨٥.