استكبر عدوّ الله إبليس فابتلاه الله تعالى بالصغار والذلة ، وقيل : كان له ملك الأرض فأخرجه الله منها إلى جزائر البحر الأخضر وعرشه عليه فلا يدخل الأرض إلا خائفا كهيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار رثة يروغ فيها حتى يخرج منها.
(قالَ) إبليس عند ذلك (أَنْظِرْنِي) أي : أخرني ولا تمتني ولا تعجل عقوبتي (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : الناس وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة ، وهذا من جهالة إبليس الخبيث لأنه سأل ربه الإمهال وقد علم أنه لا سبيل لأحد من الخلق إلى البقاء في الدنيا ولكنه كره أن يذوق الموت فطلب البقاء والخلود فلم يجب إلى ما سأل بل أجابه الله تعالى بقوله : (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) لا إلى ذلك الوقت بل إلى الوقت المعلوم كما بينه تعالى في سورة الحجر بقوله تعالى : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر ، ٣٧ ـ ٣٨] وذلك هو النفخة الأولى التي يموت فيها الخلق.
فإن قيل : لم أجيب إلى الإنظار وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم؟ أجيب : بأنه أجابه لما في ذلك من ابتلاء العباد وفي مخالفته من عظيم الثواب وحكمة ما خلق الله تعالى من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
(قالَ) أي : إبليس (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي : فبإغوائك لي والباء للقسم أي : أقسم بإغوائك وجوابه (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) أي : لبني آدم (صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : على الطريق الموصل إليك وإنما أقسم بالإغواء لأنه كان تكليفا والتكليف من أحسن أفعال الله تعالى لكونه تعريضا لسعادة الأبد فكان جديرا لأن يقسم به ويجوز أن تتعلق الباء بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ أي : فبسبب إغوائك أقسم.
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي : من جميع الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة ربه ، وقيل : لم يقل من تحتهم لأنّ الإتيان منه يوحش ، وعنه أنه قال : من بين أيديهم من قبل الآخرة فيخبرهم أن لا بعث ولا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من قبل الدنيا فيزينها لهم ، وعن أيمانهم أي : من قبل حسناتهم أي : فيبطئهم ، عنها ، وعن شمائلهم من قبل سيئاتهم أي : فيزين لهم المعاصي يدعوهم إليها. وإنما عدى الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عروضهم ونظيره قوله : جلست عن يمينه. وعن شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أمّا من بين يدي فيقول : لا تخف إنّ الله غفور رحيم فأقرأ (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه ، ٨٢] ، وأمّا من خلفي فيخوفني الضيعة على من خلفي فأقرأ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود ، ٦] ، وأمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص ، ٨٣] ، وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ ، ٥٤] (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) أي : مطيعين.
فإن قيل : كيف علم الخبيث ذلك؟ أجيب : بأنه إنما قال ذلك ظنا لقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ ، ٢٠] لما رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّدا وهو الشيطان والنفس والهوى ومبدأ