المسلمون يجهدون في الدعاء لا يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنّ الله تعالى يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) فإنّ الله تعالى أثنى على زكريا عليه الصلاة والسّلام فقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم ، ٣] وعن الحسن أيضا : إنّ الله يعلم التقيّ والدعاء الخفيّ إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر الناس به وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزوّار وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يفعلوه في السرّ فيكون علانية أبدا (إِنَّهُ) تعالى (لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي : المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره نبه به على أنّ الداعي ينبغي له أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام والصعود إلى السماء.
روي أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهمّ إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : يا بنيّ اسأل الله الجنة وتعوّذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» (١) وقيل : أراد به الاعتداء في الجهر ، قال ابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح ، وعنه صلىاللهعليهوسلم : «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهمّ إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» (٢) ثم قرأ : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.)
(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي : بالشرك والمعاصي (بَعْدَ إِصْلاحِها) أي : ببعث الرسل وشرع الأحكام ، وقيل : لا تفسدوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وعلى هذا فمعنى قوله تعالى : (بَعْدَ إِصْلاحِها) أي : بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب (وَادْعُوهُ خَوْفاً) منه ومن عذابه (وَطَمَعاً) أي : فيما عنده من مغفرته وثوابه ، وقال ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي : المطيعين ، وفي ذلك ترجيح الطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة وتذكير قريب المخبر به عن رحمة لإضافتها إلى الله تعالى ، وقال سعيد بن جبير : الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ ، وقيل : إنّ تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة ، وقيل : ذكره للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره حيث يجب التأنيث في الأوّل فيقال فيه : فلانة قريبة مني ويجوز في الثاني فيقال : فلانة قريبة وقريب مني في المكان وكون الرحمة قريبا من المحسنين لأنّ الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة ، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينهم وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان.
فائدة : رحمت تكتب بالتاء المجرورة فوقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء وأمالها الكسائي في الوقف.
وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) عطف على ما قبله والمعنى : إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي : متفرّقة قدام المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الطهارة حديث ٩٦ ، وابن ماجه في الدعاء حديث ٣٨٦٤.
(٢) أخرجه بنحوه أبو داود حديث ١٤٨٠ ، وابن ماجه حديث ٣٨٦٤.