قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) أي : كثر عددكم بعد القلة أو كثركم بالغنى بعد الفقر وكثركم بالقدرة بعد الضعف قيل : إنّ مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوط عليهماالسلام فولدت فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة والنماء فكثروا ونموا (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) قبلكم بتكذيبهم رسلهم أي : آخر أمرهم من الهلاك وأقرب الأمم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أرسل الله تعالى عليهم حجارة من السماء لما عصوه وكذبوا رسوله.
(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) به أي : وإن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين فرقة آمنت بي وصدقت برسالتي وفرقة كذبت وجحدت برسالتي (فَاصْبِرُوا) أي : فتربصوا (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) أي : بين الفرقتين فيعز المؤمنين أي : المصدّقين وينصرهم ويهلك المكذبين الجاحدين ويعذبهم وفي هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي : لا حيف في حكمه ولا معقب له لأنه تعالى منزه عن الجور والميل في حكمه وإنما قال : (خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنه قد يسمى بعض الأشخاص حاكما على سبيل المجاز والله تعالى هو الحاكم في الحقيقة.
(قالَ الْمَلَأُ) أي : الجماعة (الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي : تكبروا (مِنْ قَوْمِهِ) عن الإيمان بالله ورسوله وتعظموا عن اتباع شعيب عليه الصلاة والسّلام (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَ) أي : ترجعن (فِي مِلَّتِنا) أي : لا بدّ من أحد الأمرين إمّا إخراجك ومن اتبعك على دينك من بلدنا أو عودكم في الكفر.
فإن قيل : شعيب لم يكن قط على ملتهم حتى يرجع إلى ما كان عليه؟ أجيب : بأنّ أتباع شعيب كانوا على ملة أولئك الكفار فخاطبوا شعيبا وأتباعه جميعا فدخل هو في الخطاب وإن لم يكن على ملتهم قط لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقا فاستعمل العود في حقهم على سبيل المجاز وجرى بعضهم على أن العود يستعمل بمعنى صار كما يستعمل بمعنى رجع فلا يستلزم الرجوع إلى حالة سابقة بل هو انتقال من حالة سابقة إلى حالة مستأنفة كما قال القائل (١) :
فإن تكن الأيام تحسن مرّة |
|
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب |
أراد فقد صارت لهنّ ذنوب ولم يرد أن ذنوبا كانت لهنّ قبل الإحسان (قالَ) لهم شعيب على سبيل الاستفهام الإنكاري (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أي : كيف نعود فيها ونحن كارهون لها ، وقيل : لا نعود فيها وإن أكرهتمونا وجبرتمونا على الدخول فيها لا نقبل ولا ندخل.
(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) والجواب عن هذا مثل ما أجيب به عن الأوّل وهو أن نقول : إنّ الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة إلا أن شعيبا نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا مما كانوا عليه من الكفر فأجرى الكلام على حكم التغليب (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) أي : إلا أن يشاء خذلاننا وارتدادنا فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا وفيه دليل على أنّ الكفر بمشيئة الله تعالى ، وقيل : أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي : وسع علمه كل شيء فلا يخفى عليه شيء مما كان وما يكون منا ومنكم (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في أن يثبتنا
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.