فإن قيل : بم يتعلق قوله تعالى : (لِلنَّاظِرِينَ؟) أجيب : بأنه يتعلق بقوله تعالى : (بَيْضاءُ) والمعنى : فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضا عجيبا خارجا عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب.
فإن قيل : أحد هذين الأمرين إمّا العصا وإمّا اليد كان كافيا فما فائدة الجمع بينهما؟ أجيب : بأنّ كثرة الدلائل توجب القوّة في اليقين وزوال الشك وقول بعض الملحدين : المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد ـ وهو أنّ حجة موسى عليهالسلام كانت قوية ظاهرة قاهرة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين وأظهرت فسادها كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ومن أنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال في العرف : لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني أي : قوة كاملة ومرتبة ظاهرة ـ مردود إذ حمل هاتين المعجزتين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله ولما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان.
(قالَ الْمَلَأُ) أي : الأكابر (مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا) أي : موسى (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي : عالم بالسحر ماهر فيه قد أخذ بأعين الناس ويريهم الشيء بخلاف ما هو عليه حتى يخيل إليهم أنّ العصا صارت حية وأنّ الآدم أبيض كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون وإنما قالوا ذلك لأن السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان.
فإن قيل : قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام من قول الملأ لفرعون وقال في سورة الشعراء وقال أي : فرعون للملأ حوله : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء ، ٣٤] فكيف الجمع بينهما؟ أجيب : عن ذلك بجوابين : الأوّل : لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولا ثم إنهم قالوه بعده فأخبر الله عنهم هنا وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء. الثاني : أن فرعون قال هذا القول ثم إن الملأ من قومه وهم خاصته سمعوه منه ثم إنهم بلغوه إلى العامّة فأخبر الله تعالى هنا عن الملأ وأخبر هناك عن فرعون (يُرِيدُ) أي : موسى (أَنْ يُخْرِجَكُمْ) أيها القبط (مِنْ أَرْضِكُمْ) أي : أرض مصر (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي : أيّ شيء تشيرون أن نفعل به فقوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) من قول فرعون وإن لم يذكر ، وقيل : من قول الملأ وتمّ كلام فرعون عند قوله :
(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) فقال الملأ مجيبين له : فماذا تأمرون وإنما خاطبوه بلفظ الجمع وهو واحد على عادة الملوك في التعظيم والتفخيم ، والمعنى : فما تأمرون أن نفعل به والقول الأوّل أصح لسياق الآية التي بعدها وهي قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ) أي : موسى (وَأَخاهُ) هارون عليهماالسلام أي : أخر أمرهما ولا تعجل فيه حتى ننظر في أمرهما والإرجاء في اللغة التأخير وقيل : الحبس أي : احبسه وأخاه ورد بأن فرعون ما كان يقدر على حبس موسى بعدما رأى من أمر العصا ما رأى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بهمزة ساكنة والباقون بغير همز (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) جمع مدينة واشتاقها من مدن بالمكان أي : أقام به أي : مدائن صعيد مصر (حاشِرِينَ) أي : أرسل رجالا من أعوانك وهم الشرط بضم الشين وفتح الراء طائفة من أعوان الولاة يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد ، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد فإن غلبهم موسى صدّقناه واتبعناه وإن غلبوه علمنا أنه ساحر فذلك قوله تعالى :
(يَأْتُوكَ) أي : الشرط (بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) أي : ماهر بصناعته والباء يحتمل أن تكون بمعنى مع ويحتمل أن تكون باء التعدية ، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها ولا ألف