المراتب والدرجات أمرهم بالسجود تذللا لما رأوا فيه من عظيم قدرته وباهر آياته وشكرا لما أنعم عليهم بواسطته ، وأما المعنى اللغويّ وهو التواضع لآدم تحية وتعظيما له كسجود إخوة يوسف له في قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف ، ١٠٠] ولم يكن فيه وضع الجبهة بالأرض إنما كان الانحناء فلما جاء الإسلام بطل ذلك بالسلام والكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلهم أو طائفة منهم مثل ما مرّ (فَسَجَدُوا) أي : الملائكة (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) أي : امتنع عما أمر به استكبارا من أن يتخذه وصلة في عبادة ربه أو يعظمه أو يتلقاه بالتحية أو يخدمه ويسعى فيما فيه خيره وصلاحه ، وقال : أنا خير منه ، والإباء امتناع واختيار ، والتكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره ، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع وهو التزين بأكبر مما عنده يتكبر بذلك ويتزين بالباطل (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي : في علم الله أو صار منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله تعالى : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جوابا لقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) [ص ، ٧٥] لا بترك الواجب وهو السجود وحده ، والآية تدل على أنّ آدم أفضل من الملائكة المأمورين بالسجود له وأنّ إبليس كان من الملائكة وإلا لم يتناوله أمرهم ولم يصح استثناؤه منهم ولا يرد على ذلك قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف ، ٥٠] لجواز أن يقال : كان من الجنّ فعلا ومن الملائكة نوعا.
فإن قيل : له ذرية والملائكة لا ذرية لهم. أجيب : بأنّ ابن عباس روى أنّ من الملائكة نوعا يتوالدون يقال لهم : الجن ومنهم إبليس ، وقيل : إن الله تعالى لما أخرجه من الملائكة جعل له ذرية وأنّ من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة كما أنّ من الإنس معصومين وهم الأنبياء والغالب في الإنس عدم العصمة ولمن زعم أنه لم يكن من الملائكة أن يقول إنه كان جنيا نشأ بين أظهر الملائكة وكان مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه لقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف ، ٥٠] وهو أصل الجنّ كما أنّ آدم أصل الإنس ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور ، قال البغوي : والأوّل أصح لأنّ خطاب السجود كان مع الملائكة وقوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) أي : من الملائكة الذين هم خزنة الجنة ، وقال سعيد بن جبير : من الذين يعملون في الجنة ، وقال قوم : من الملائكة الذين كانوا يصوغون حلي الجنة وقيل : إنّ الجنّ أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم فإذا علم أن الأكابر وهم الملائكة مأمورون بالتذلل لأحد والتوسل به علم أيضا أن الأصاغر وهم الجنّ مأمورون به أيضا والضمير في فسجدوا راجع للقبيلين فكأنه قال : فسجد المأمورون بالسجود إلا إبليس.
تنبيه : من فوائد الآية استقباح الاستكبار وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر والحث على الائتمار لأمره وترك الخوض فيما لا ينبغي في سر نفسه وأن الأمر للوجوب وأن الذي علم الله من حاله أنه يتوفى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم وإن كان بحكم الوقت الحاضر مؤمنا.
(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي : اتخذ الجنة مسكنا لتستقر فيها لأنها استقرار ولبث ولفظة أنت تأكيد أكد به المستكن ليصح العطف عليه وإنما لم يخاطبهما أوّلا بأن يقول اسكنا تنبيها على أنه المقصود بالحكم وهو الأمر بالسكنى التي هي الأصل بالنسبة إلى ما عطف عليها من الأكل وغيره والمعطوف عليه تبع له حتى في الوجود إذ لم يكن له من يؤنسه في الجنة فخلقت حوّاء