ليكلمه الله بخلوف فمه كما قال تعالى : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) أي : من ذي الحجة (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) أي : وقت وعده بتكليمه إياه (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) وقيل : أمره أن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها ولقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصلها هنا ، وقرأ أبو عمرو وعدنا بغير ألف قبل العين والباقون بألف.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) مع أن كل أحد يعلم أنّ الثلاثين مع العشر تكون أربعين؟ أجيب : بأنه تعالى إنما قال : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إزالة لتوهم أنّ ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإيهام.
تنبيه : الفرق بين الميقات والوقت أنّ الميقات ما قدّر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت للشيء قدره مقدّر أم لا وقوله تعالى : (أَرْبَعِينَ) نصب على الحال أي : تمّ بالغا هذا العدد وليلة نصب على التمييز (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ) وقوله : (هارُونَ) عطف بيان لأخيه أي : قال له عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة : (اخْلُفْنِي) أي : كن خليفتي (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) أي : ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) أي : ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
فإن قيل : إنّ هارون كان شريك موسى عليهماالسلام في النبوّة فكيف جعله خليفة لنفسه فإنّ شريك الإنسان أعلى حالا من خليفته ، وردّ الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدون يكون إهانة له؟ أجيب : بأنّ الأمر وإن كان كما ذكر إلا أنّ موسى عليهالسلام كان هو الأصل في تلك النبوّة.
فإن قيل : لما كان هارون نبيا والنبيّ لا يفعل إلا الإصلاح فكيف وصى إليه بالإصلاح؟ أجيب : بأنّ المقصود من هذا الأمر التأكيد كقول الخليل : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة ، ٢٦٠] (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أي : للوقت الذي وعدناه للكلام فيه (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) دلت الآية الكريمة على أنه تعالى كلم موسى عليهالسلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى ، قال الزمخشريّ في كشافه : وكلمه ربه من غير واسطة كما يكلم الملك وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح ، اه. وهذا مذهب المعتزلة ولا شك في بطلانه وفساده لأنّ ذلك الجرم كالشجرة لا يقول : أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري فثبت بذلك بطلان ما قالوه وذهب بعض الحنابلة والحشوية إلى أنّ كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم ، قال الإمام الرازي : وهذا القول أخس من أن يلتفت إليه العقل والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنّ كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأنّ موسى سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية ، قالوا : كما أنه لا يبعد رؤية ذاته مع أنّ ذاته ليست جسما ولا عرضا كذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنّ كلامه لا يكون حرفا ولا صوتا.
وفيما روي أنّ موسى عليهالسلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أنّ سماع كلامه تعالى القديم ليس من جنس كلام المحدثين وهل كان سبحانه وتعالى كلم موسى وحده أو مع أقوام آخرين؟ ظاهر الآية يدل للأوّل لأنّ قوله تعالى : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) يدل على تخصيص موسى عليهالسلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عمن عداه ، وقال القاضي : بل السبعون المختارون سمعوا أيضا كلام الله تعالى ، قال : لأنّ الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم