ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : «قال آدم : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى ، قال : يا رب ألم تنفخ فيّ الروح من روحك؟ قال : بلى ، قال : ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى ، قال : يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم» (١) ، رواه الحاكم وصححه. وقول آدم أراجعي بتخفيف الياء اسم فاعل أضيف إلى المفعول وأنت فاعل لاعتماده على الاستفهام ، أو مبتدأ خبره ما قبله ، وقرأ ابن كثير بنصب الميم من آدم ورفع التاء من كلمات على أنها تلقته ، والباقون برفع الميم وكسر التاء والكسر هذا علامة النصب لأنه جمع مؤنث سالم فينصب بالكسرة (فَتابَ عَلَيْهِ) أي : قبل توبته وإنما رتب تاب عليه بالفاء على تلقي الكلمات لتضمن تلقي الكلمات معنى التوبة وهو الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على أن لا يعود إليه وردّ المظالم إن كانت واكتفى بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعا له في الحكم ، ولذلك طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنن (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الرجاع على عباده بالمغفرة ، أو الذي يكثر إعانتهم على التوبة ، وإذا وصف بها البارىء أريد بها الرجوع من العقوبة إلى المغفرة (الرَّحِيمُ) البالغ في الرحمة ، وفي الجمع بين التوبة والرحمة وعد للتائب بالإحسان مع العفو.
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها) أي : من الجنة (جَمِيعاً) كرّر للتأكيد أو لاختلاف المقصود فإنّ الأوّل دل على هبوطهم إلى دار بلية يتعادون فيها ولا يخلدون ، والثاني أشعر بأنهم أهبطوا للتكليف فمن اهتدى لهذا نجا ومن ضله هلك ، وقيل : الهبوط الأوّل من الجنة إلى السماء الدنيا ، والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض (فَإِمَّا) فيه إدغام إنّ الشرطية في ما المزيدة (يَأْتِيَنَّكُمْ) يا ذرّية آدم (مِنِّي هُدىً) أي : رشد وبيان شريعة ، وقيل : كتاب ورسول (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) بأن آمن بي وعمل بطاعتي وكرّر لفظ الهدى ولم يضمر إمّا لإظهار شأنه وفخامته خصوصا مع إضافته إليه ، أو لأنه أراد بالثاني أعمّ من الأوّل وهو ما أتى به الرسل واقتضاه العقل أي : فمن تبع ما أتاه راعيا فيه ما يشهد به العقل (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فضلا من أن يحل بهم مكروه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوات محبوب عنهم وهو النظر إلى وجهه تعالى فيحزنوا عليه بل يتنعمون بالنظر إلى وجهه تعالى فإنه المقصود الأعظم فالخوف على الواقع نفى عنهم العقاب فأثبت لهم الثواب على آكد وجه وأبلغه ، وقيل : لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة. وأمال الدوري عن الكسائي ألف هداي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح ، وإنما جيء بحرف الشك وإتيان الهدى واقع كائن لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلا.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : جحدوا (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : كتبنا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) يوم القيامة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ماكثون فيها أبدا لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ، والآية في الأصل العلامة الظاهرة وتقال للمصنوعات من حيث إنها تدل على الصانع وعلمه وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل.
تنبيه : في هذه الآيات دلالة على أنّ الجنة مخلوقة وأنها في جهة عالية ، وأنّ التوبة مقبولة ، وأنّ متبع الهدى مأمون العاقبة ، وأن عذاب النار دائم ، وأن الكافر فيه مخلد ، وأن غيره لا يخلد فيه بمفهوم قوله تعالى : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المجادلة ، ١٧] واستدلّ بعض الخوارج كالحشوية وهم قوم
__________________
(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٥٩٤.