عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر ، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدارهم والدنانير وجمعه عروض. والمعنى : أنهم يأخذون حطام الدنيا وهو الشيء التافه الخسيس الحقير ؛ لأنّ الدنيا بأسرها فانية حقيرة والراغب فيها أحقر منها فاليهود ورثوا التوراة وعلموا ما فيها وضيعوا العمل بما فيها وتركوه وأخذوا الرشا في الأحكام ويعلمون أنه حرام (وَ) مع إقدامهم على هذا الذنب العظيم وإصرارهم عليه (يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) أي : لا يؤاخذهم الله تعالى بذلك فيتمنون على الله الأمانيّ الباطلة ، وعن شدّاد بن أوس أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» (١) ؛ لأنّ اليهود كانوا يقومون على الذنوب ويقولون : سيغفر لنا ، وهذا هو التمني بعينه. وقوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ) الواو فيه للحال أي : يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين وليس في التوراة وعد المغفرة مع الإصرار وقوله تعالى : (أَلَمْ يُؤْخَذْ) استفهام تقرير (عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي : التوراة والإضافة بمعنى في (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) أي : المعلوم شأنه وليس من المعلوم إثبات المغفرة على القطع بغير توبة ، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وقوله تعالى : (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) أي : ما في ذلك الميثاق الذي في الكتاب أو الكتاب بتقرير القراءة للحفظ عطف على (أَلَمْ يُؤْخَذْ) من حيث المعنى فإنه تقرير أو على ورثوا و (أَلَمْ يُؤْخَذْ) اعتراض (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) أي : وما في الدار الآخرة مما أعده الله خير (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الله ويخافون عقابه (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أي : حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدل ما يسعدهم ويبقى أنّ الدار الآخرة خير ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب ويكون المراد الإعلام بتناهي الغضب ، والباقون بالياء على الغيبة.
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) يقال : مسكت بالشيء وتمسكت به وأمسكت به والتمسك بالكتاب العمل بما فيه وإحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه وقرأ شعبة بسكون الميم وتخفيف السين والباقون بفتح الميم وتشديد السين (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيها على عظم قدرها وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى وهذه الآية نزلت في الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وقوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر أي : أجرهم.
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ
__________________
(١) أخرجه الترمذي في القيامة حديث ٢٤٥٩ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٦٠ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٤ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٦٩ ، والحاكم في المستدرك ١ / ٥٧ ، ٤ / ٢٥١.