واتبع هواه) مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه ، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وهذه الآية من أشدّ الآيات على أصحاب العلم ، وذلك لأنه بعد أن خص هذا الرجل بآياته ، وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين ، فصار في درجة الكلب ، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله تعالى في حقه أكثر ، فإذا أعرض عن متابعة الهدى ، وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم ، وإليه الإشارة بقوله : «من ازداد علما ولم يزدد هدى فلم يزدد من الله إلا بعدا» (١)(فَمَثَلُهُ) أي : فصفته التي هي مثل في الخسة (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) أي : كمثله في أخس أوصافه وهو (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) أي : بالطرد والزجر (يَلْهَثْ) أي : يدلع لسانه (أَوْ) إن (تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) فهو يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ، وليس غيره من الحيوان كذلك ، قيل : كل شيء يلهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال والراحة ؛ لأنّ اللهث طبيعة أصلية فيه ، ف (كذلك) حال من كذب بآيات الله إن وعظته فهو ضال ، وإن تركته فهو ضال ، وكذلك حال الحريص على الدنيا إن وعظته فهو حريص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه ، وإن تركته ولم تعظه فهو حريص أيضا ؛ لأنّ الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : «الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه» ، ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالتين.
وقيل : لما دعا بلعم على موسى عليهالسلام خرج لسانه فوقع على صدره ، وجعل يلهث كما يلهث الكلب (ذلِكَ) أي : المثل (مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) فعم بهذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها ، ووجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث أنهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم لم يهتدوا بل هم في ضلال على كل حال (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) أي : فأخبر يا محمد قومك بهذه الأخبار التي سبقت بها مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبسا على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي : يتدبرون فيها فيؤمنون.
(ساءَ) أي : بئس (مَثَلاً الْقَوْمُ) أي : مثل القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي : بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) أي : كان ذلك في طبعهم جبلة لهم لا يقدر غير الله تعالى على تغييره ، وتقديم المفعول به للاختصاص ، كأنه قيل : وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّاها إلى غيرها. وقوله تعالى :
(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى ، وأنّ هداية الله تعالى تختص ببعض دون بعض ، وأنها مستلزمة للاهتداء ، والإفراد في الأوّل والجمع في الثاني باعتبار اللفظ والمعنى ، تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقتهم بخلاف الضالين ، والاقتصار في الإخبار عمن هدى الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء ، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه ، وأنه المستلزم للقول بالنعم الآجلة والعنوان له.
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٣٥١ ، ٨ / ٤٤٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٣٢٢.