(وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي : خلقنا (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أخبر الله تعالى أنه خلق كثيرا من الجنّ والإنس للنار ، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ، ومن خلقه الله تعالى للنار فلا حيلة له في الخلاص منها.
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : «دعي رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى جنازة صبيّ من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ، ولم يدركه ، فقال : أو غير ذلك يا عائشة إنّ الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم» (١) أخرجه مسلم.
قال النووي في «شرح مسلم» : أجمع من يعتد به من علماء المسلمين أنّ من مات من أطفال المسلمين فهو في الجنة ؛ لأنه ليس مكلفا ، وتوقف فيه من لا يعتد به لهذا الحديث ، وأجاب العلماء عنه بأنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعله نهانا عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عنها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص قوله : أعطه فإني لأراه مؤمنا ، فقال : أو مسلما ، قال بعضهم : ويحتمل أنه صلىاللهعليهوسلم قاله قبل أن يعلم أنّ أطفال المسلمين في الجنة ، فلما علم ذلك أخبر به ، قال :
وأما أطفال المشركين ، ففيهم ثلاثة مذاهب ، قال الأكثرون : هم في النار تبعا لآبائهم ، وتوقف طائفة منهم ، والثالث وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون : أنهم من أهل الجنة ، واستدلوا بأشياء منها حديث «إبراهيم الخليل عليهالسلام حين رآه النبيّ صلىاللهعليهوسلم في الجنة ، وحوله أولاد الناس ، قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين ، قال : وأولاد المشركين» (٢) رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ، ١٥] ولا يتوجه على المولود التكليف ، ولا يلزمه قبول قول المرسل حتى يبلغ ، وهذا متفق عليه.
وفي الآية دليل وحجة واضحة لمذهب أهل السنة في أن الله تعالى خالق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها ؛ لأنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيرا من الجنّ والإنس للنار ، ولا مزيد على بيان الله تعالى ؛ ولأن العاقل لا يختار لنفسه دخول النار ، فلما عمل بما يوجب عليه دخول النار به علم أنّ له من يضطرّه إلى ذلك العمل الموجب لدخول النار وهو الله تعالى.
وقالت المعتزلة : إن اللام في قوله : (لِجَهَنَّمَ ،) لام العاقبة ، واستدلوا لذلك بآيات وأشعار ، فمن الآيات قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ، ٨] وهم ما التقطوه لهذا الغرض ، ومنها قول موسى : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)(٣) [يونس ، ٨٨] ومن الأشعار قول بعضهم :
وللموت تغذو الوالدات سخالها |
|
كما لخراب الدهر تبنى المساكن |
وقال آخر (٤) :
__________________
(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٦٢ ، والنسائي في الجنائز حديث ١٩٤٧ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٨٢.
(٢) أخرجه البخاري في التعبير حديث ٧٠٤٧.
(٣) البيت من الطويل ، وهو لسابق البربري في خزانة الأدب ٩ / ٥٢٩ ، ٥٣٢ ، والعقد الفريد ٢ / ٦٩ ، وبلا نسبة في الدرر ٤ / ١٦٨ ، ومغني اللبيب ١ / ٢١٤ ، ولسان العرب (لوم).
(٤) البيت من البسيط ، وهو لسابق البربري في اللامات ص ١٢٠ ، وبلا نسبة في لسان العرب (لوم).