فإن قيل : المطاع إبليس فكيف يعير بالجمع؟ أجيب : بأنّ من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين ، هذا إن حملت هذه الآية على القصة المشهورة ، أمّا إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل.
(وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي : الأصنام (لَهُمْ) أي : لعابديهم (نَصْراً) أي : لا تقدر على النصر لمن أطاعها أو عبدها ، ولا تضر من عصاها ، والمعبود الذي تجب عبادته يكون قادرا على إيصال النفع والضر ، وهذه الأصنام ليست كذلك ، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها؟ (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي : وهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها مكروها ، فإنّ من أراد كسرها قدر عليه ، وهي لا تقدر على دفعه عنها. والاستفهام للتوبيخ.
ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي : المشركين (إِلَى الْهُدى) أي : إلى الإسلام (لا يَتَّبِعُوكُمْ) أي : لأنّ الله تعالى حكم عليهم بالضلالة فلا يقبلوا الهداية ، وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة ، والباقون بفتح التاء مشدّدة وكسر الباء الموحدة (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) إلى الهدى (أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) أي : ساكتون عن دعائهم ، فهم في كلا الحالتين لا يؤمنون.
وقيل : الضمير في تدعوهم للأصنام أي : إنّ هذه الأصنام التي يعبدها المشركون معلوم من حالها أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع من دعاها إلى خير وهدى ، وذلك أنّ المشركين كانوا إذا وقعوا في شدّة وبلاء تضرّعوا إلى أصنامهم ، وإذا لم يكن لهم إلى الأصنام حاجة سكتوا فقيل لهم : لا فرق بين دعائكم إلى الأصنام وسكوتكم عنها ، فإنها عاجزة في كل حال.
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ) أي : مملوكة (أَمْثالُكُمْ) فهي لا تملك ضرّا ولا نفعا.
فإن قيل : كيف وصفها بأنها عباد مع أنها جماد؟ أجيب : بأنّ المشركين لما ادّعوا أنّ الأصنام تضرّ وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة ، فوردت هذه الألفاظ على وفق معتقدهم تبكيتا لهم وتوبيخا ولذلك قال : (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في كونها آلهة ، ولم يقل :
فادعوهنّ فليستجبن ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ ،) ولم يقل : التي ، وبأنّ هذا اللفظ إنما ورد في معرض الاستهزاء بالمشركين ؛ لأنهم لما نحتوها بصورة الإناسي قال لهم : إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم ، فلا يستحقون عبادتكم كما إنه لا يستحق بعضكم عبادة بعض ، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا ، وجعلتموها آلهة وأربابا.
ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم بقوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ) أي : بل أ(لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ) أي : بل أ(لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ) أي : بل أ(لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) وهذا الاستفهام إنكاري أي : ليس لهم شيء من ذلك مما هو لكم ، فكيف تعبدونهم وأنتم أتم حالا منهم؟ إذ لا يليق بالإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الأرذل ، ونظير هذا قول إبراهيم الخليل عليهالسلام لأبيه : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم ، ٤٢] وقد تعلق بعض الجهال بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى ، فقال : إنّ الله تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلا على عدم إلهيتها ، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله لكان عدمها دليلا على عدم الإلهية ، وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى.