أجيب : بأن المقصود من هذه الآية بيان أنّ الإنسان أفضل وأحسن حالا من الصنم ؛ لأنّ الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة ، والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة ، فكان الإنسان أفضل وأكمل حالا من الصنم ، فاشتغال الأفضل الأكمل بحال الأخس الأدون جهل ، فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال (قُلِ ادْعُوا) أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ادعوا (شُرَكاءَكُمْ) أي : إلى هلاكي (ثُمَّ كِيدُونِ) قال الحسن : كانوا يخوّفونه صلىاللهعليهوسلم بآلهتهم فقال الله تعالى له : قل لهم ادعوا شركاءكم ثم كيدون أي : ليظهر لكم أنها لا قدرة لها على إيصال المضارّ إليّ بوجه.
وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء وصلا ووقفا ، وهشام له فيها وجهان : الإثبات والحذف ، وصلا ووقفا ، والباقون يحذفونها وصلا ووقفا. ثم تهكم عليهم صلىاللهعليهوسلم بقوله : (فَلا تُنْظِرُونِ) أي : فأعجلوا في كيدي أنتم وشركاؤكم ، فإنكم لا تقدرون على ذلك ، وعلل عدم قدرتهم على ذلك بقوله :
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) الذي يتولى حفظي ونصري هو الله (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين وهو القرآن (وَهُوَ) أي : الله سبحانه (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) أي : بنصره وحفظه ، فلا يضرهم عداوة من عاداهم ، قال ابن عباس : يريد بالصالحين الذين لا يعدلون بالله شيئا ولا يعصونه ، فمن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلا عن أنبيائه وفي هذا مدح للصالحين ، وأنّ من تولاه الله تعالى بحفظه لا يضره شيء ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه ما كان يدخر لأولاده شيئا ، فقيل له فيه ، فقال : ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين ، فإن كان من الصالحين فوليه هو الله تعالى ، ومن كان الله تعالى له وليا فلا حاجة له إلى مالي ، وإن كان من المجرمين فقد قال الله تعالى : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ومن رده الله تعالى لم أكن مشتغلا بمهماته (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي : الله (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) أي : فكيف أبالي بهم؟
فإن قيل : هذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدّمة فما الفائدة في تكريرها؟ أجيب : بأنّ الأوّل مذكور على جهة التقريع ، وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنه قيل : الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين ، وهذه الأصنام ليست كذلك ، فلا تكون صالحة للإلهية (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أي : الأصنام (إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) دعاءكم (وَتَراهُمْ) يا محمد (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي : يقابلونك كالناظر (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) لأنهم صوّروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه ، وقال الحسن : المراد بهذا المشركون ، ومعناه إن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا دعاءكم ؛ لأنّ آذانهم قد صمت عن سماع الحق وتراهم ينظرون إليك يا محمد وهم لا يبصرون أي : ببصائر قلوبهم.
ولما بيّن تعالى أن الله هو الذي يتولاه ، وإنّ الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار بين ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس بقوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) أي : اقبل الميسور من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسّس وذلك مثل قبول الاعتذار ، ويدخل في ذلك ترك التشديد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية ، ويدخل فيه أيضا التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة ، قال تعالى : (كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران ،