[إبراهيم ، ٣٤] فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء ، فإذا سمع بعد ذلك قوله : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) عظم الخوف وحينئذ يحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف ، وعنده يكمل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسّلام : «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» (١) وهذا جرى عليه بعضهم في حالة الصحة ، فيكون الخوف والرجاء مستويان.
والذي جرى عليه الغزالي وهو التحقيق أنه إن قوي رجاؤه يقوى جانب الخوف والعكس بالعكس ، وأما حال المرض فيكون جانب الرجاء أرجح ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال : «كيف تجدك»؟ قال : أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يجتمعان في قلب مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف» (٢)(وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) أي : ومتكلما كلاما فوق السر ودون الجهر أي : قصدا بينهما ، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص (بِالْغُدُوِّ) جمع غدوة ، وقيل : إنه مصدر (وَالْآصالِ) جمع أصيل ، وهو ما بين صلاة العصر إلى الغروب ، وإنما خص هذين الوقتين بالذكر ؛ لأنّ الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو آخر الموت إلى اليقظة التي هي كالحياة فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم ، وهو وقت الحياة من موت النوم بالذكر ليكون أوّل أعماله ذكر الله تعالى ، وأما وقت الآصال وهو آخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب الذكر ؛ لأنها حالة تشبه الموت ، ولعله لا يقوم من تلك النومة ، فيكون موته على ذكر الله تعالى ، وهو المراد من قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) عن ذكر الله.
وقيل : إنما خصا بالذكر ؛ لأنّ الصلاة بعد صلاة الصبح ، وبعد صلاة العصر مكروهة ، واستحب للعبد أن يذكر الله تعالى فيهما ليكون في جميع أوقاته مشتغلا بما يقرّبه إلى الله تعالى من صلاة وذكر ، وقيل : إنّ أعمال العباد تصعد أوّل النهار وآخره ، فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر ، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب ، فاستحب له الذكر فيهما ليكون ابتداء عمله بالذكر وختامه بالذكر.
(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي : الملائكة المقرّبين بالفضل والكرامة (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي : لا يتكبرون (عَنْ عِبادَتِهِ) لأنهم عبيده خاضعون لعظمته وكبريائه (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي : وينزهونه عن جميع النقائص ، ويقولون : سبحان الله ربنا (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي : ويخضعون له بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره ، وفي هذا إشارة إلى أنّ الأعمال تنقسم إلى قسمين : أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، فأعمال القلوب هي تنزيه الله تعالى عن كل ما سواه ، وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله : (وَيُسَبِّحُونَهُ) وعبر عن أعمال الجوارح بقوله : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ليوافق الملائكة المقرّبين في عبادتهم ، وعن معدان قال : سألت ثوبان مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلت : حدّثني حديثا ينفعني الله به قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة» (٣) ، وفي رواية قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ١٣٣ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٢٩٦.
(٢) أخرجه الترمذي في الجنائز حديث ٩٨٣ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٦١.
(٣) أخرجه الترمذي في الصلاة حديث ٣٨٨ ، والنسائي في التطبيق حديث ١١٣٩ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٤٢٣.