سهونا وغفلنا فذلك نقصانه ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : إنّ للإيمان فرائض وشرائط وحدودا وسننا فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، ثم وصف الله تعالى المؤمنين الكاملين بصفة أخرى ثالثة ، وهي الاتكال عليه بقوله تعالى : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي : يفوّضون جميع أمورهم إليه لا يرجون غيره ، ولا يخافون سواه ؛ لأنّ المؤمن إذا كان واثقا بوعد الله تعالى ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره ، وهذا الحال مرتبة عالية ودرجة شريفة ، وهي أنّ الإنسان بحيث يصير لا يبقى له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله تعالى ، وهذه الصفات الثلاث مرتبة على أحسن صفات الترتيب ، فإنّ المرتبة الأولى هي الوجل عند ذكر الله ، والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات تكاليفه ، والمرتبة الأخيرة الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله ، ثم إنّ هذه المراتب الثلاث أحوال معتبرة في القلوب والبواطن ، ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر فقال :
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : الذين يؤدّونها بحقوقها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : أعطيناهم (يُنْفِقُونَ) في طاعة الله ؛ لأنّ رأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة ، وبذل المال في مرضاة الله ، ويدخل في ذلك صلاة الفرض والنفل والزكاة والصدقات والإنفاق في الجهاد والإنفاق على المساجد والقناطر ، ثم قال تعالى :
(أُولئِكَ) أي : الموصوفون بهذه الصفات الخمسة (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ومحاسن أفعال الجوارح التي المعيار عليها ، وهي الصلاة والصدقة و (حَقًّا) مصدر مؤكد للجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كقوله : هو عبد الله حقا ، أي : أحق ذلك حقا.
تنبيه : اختلف العلماء في أنه هل للشخص أن يقول : أنا مؤمن حقا ، أو لا؟ فقال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه : الأولى أن يقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، ولا يقول : أنا مؤمن حقا ، وقال أصحاب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه : الأولى أن يقول : أنا مؤمن حقا ، ولا يجوز أن يقول : إن شاء الله تعالى ، واستدل للأوّل بوجوه :
الأوّل : أن قوله : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ليس على سبيل الشك ، ولكن الشخص إذا قال :
أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب ، فإذا قال : إن شاء الله تعالى زال ذلك العجب ، وحصل الانكسار له.
الثاني : إنّ الله تعالى ذكر في أوّل الآية ما يدل على الحصر وهو قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) هم كذا وكذا وكلمة إنما تفيد الحصر ، وذكر في آخر الآية قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وهذا أيضا يفيد الحصر ، فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ، ثم إنّ الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس ، فكان الأولى له أن يقول : إن شاء الله تعالى ، وعن الحسن أنّ رجلا سأله : أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا مؤمن بها ، وإن كنت تسألني عن قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية فلا أدري أنا منهم أم لا؟ وقال سفيان الثورّي : من زعم أنه مؤمن حقا عند الله ، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ، وهذا إلزام منه أي : كما لا نقطع أنه من أهل الجنة قطعا ، فلا نقطع أنه مؤمن حقا.