لا تعلم كيف تقاتل بني آدم فعلمهم الله تعالى : قيل : إنما خصت الرأس والبنان بالذكر ؛ لأنّ الرأس أعلى الجسد وأشرف الأعضاء ، والبنان أضعف الأعضاء ، فيدخل في ذلك كل عضو في الجسد.
وقيل : أمرهم بضرب الرأس وبه هلاك الإنسان وبضرب البنان وبه تبطل حركته عن القتال ؛ لأنّ بالبنان يتمكن من مسك السيف والسلاح وحمله والضرب به فإذا قطع بنانه تعطل ذلك كله.
(ذلِكَ) أي : التسليط العظيم الذي وقع من القتل والأسر يوم بدر ، والخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم أو لكل أحد (بِأَنَّهُمْ) أي : الذين تلبسوا بالكفر (شَاقُّوا اللهَ) الذي لا يطاق انتقامه (وَرَسُولَهُ) أي : خالفوهما في الأوامر والنواهي والمشاقة المخالفة وأصلها المجانبة كأنهم صاروا في شق وجانب غير الذي يرضيانه (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) له فإنّ الذي أصابهم في ذلك اليوم من الأسر والقتل شيء قليل في جنب ما أعدّ الله تعالى لهم من العقاب يوم القيامة.
وقوله تعالى : (ذلِكُمْ) خطاب للكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في شاقوا أي : ذلكم الذي عجل لكم ببدر من القتل والأسر (فَذُوقُوهُ) عاجلا (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) آجلا في الآخرة (عَذابَ النَّارِ) ووضع الظاهر فيه موضع المضمر للدلالة على أنّ الكفر سبب للعاجل والآجل.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي : مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون أي : يدبون دبيبا من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلا قليلا سمي به ، وجمع على زحوف ، وانتصابه على الحال وهو مصدر موصوف به كالعدل والرضا ولذلك لم يجمع (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي : منهزمين منهم وإن كنتم أقل منهم.
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم لقائهم (دُبُرَهُ) أي : يجعل ظهره إليهم منهزما (إِلَّا مُتَحَرِّفاً) أي : منعطفا (لِقِتالٍ) بأن يريهم أنه منهزم خداعا ثم يكر عليهم وهو باب من مكايد الحرب (أَوْ مُتَحَيِّزاً) منضما وصائرا (إِلى فِئَةٍ) أي : جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها على القرب يستنجد بها.
ومنهم من لا يعتبر القرب لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ففرّوا إلى المدينة فقلت : يا رسول الله نحن الفرارون ، فقال : «بل أنتم العكارون» (١) وفي رواية «الكرارون» أي : المتعاطفون إلى الحرب ، وأنا فئتكم.
وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف ، فقال عمر : أنا فئتك (فَقَدْ باءَ) أي : رجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي : المرجع هي ، وعن ابن عباس أنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر هذا إذا لم يزد العدد على الضعف لقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال ، ٦٦] وقيل : هذا في أهل بدر خاصة ؛ لأنه ما كان يجوز لهم الانهزام يوم بدر ؛ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان معهم قاله مجاهد. ولما انصرف المسلمون من قتال بدر كان الرجل يقول : أنا قتلت فلانا ، ويقول الآخر : أنا قتلت فلانا ، فنزل قوله تعالى :
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الجهاد حديث ٢٦٤٧ ، والترمذي في الجهاد حديث ١٧١٦.